كان مهرجان الفيلم الأوروبي في دورته الثالثة فرصة رائعة لكي نشاهد الفيلم الإيطالي «vincere» أو «انتصار» تحفة المخرج الكبير «ماركو بيللوكيو» الذي أستطيع بعد أن استمتعت به أن اعتبره أحد أفضل وأذكي الأفلام التي أدانت الفاشية والفاشيين.. علي مستوي الحكاية القصة تبدو بسيطة وربما مألوفة: رجل يعرف امرأة وينجب منها، وعندما يصعد سياسيا يتنكر لها، ولكن علي مستوي المعني والمغزي والمعالجة هناك عمل كثيف متعدد الطبقات والدلالات، فالرجل في الحكاية ليس كأي رجل، ولكنه «بنيتو موسوليني» زعيم الفاشية الأشهر الذي ورط وطنه في كارثة الحرب العالمية الثانية، والذي سحق معارضيه بلا رحمة أو هوادة، والمرأة ليست شخصية بسيطة ولكنها تركيبة فريدة من العشق إلي درجة العبادة والإيمان إلي درجة التضحية بكل شيء، أما المعالجة فهي مركبة ومعقدة، تاريخية وسياسية ودينية ونفسية، وهناك خيط واحد يجمع كل هذا البناء الفذّ هو أن الفاشية لا تصعد أبدا في مجتمع إلا علي حساب سقوط الإنسان نفسه، ويتم هذا الصعود والسقوط بلا توقف من الخاص (علاقة «موسوليني» بامرأة منسيّة) إلي العام (السقوط التدريجي لإيطاليا مع الصعود التدريجي لموسوليني). عندما أقول إننا أمام فيلم عظيم فإن ما أعنيه هنا أننا أمام عمل يقول أشياء مهمة جدا وبأعلي درجات الاحتراف الفني والمهني، ولذلك يبدو فيلم «فوز» عن «إيدا والسر» المرأة التي دافعت عن كونها زوجة مجهولة لموسوليني أنجبت منه ولدا، ولكنه أيضا عن موسوليني نفسه وفاشيته، كما أنه في نفس الوقت عن إيطاليا المبهورة المعجبة والمفتونة ببطلها حتي لو كان الثمن أن يتم تدميرها تماما، وفي كل خط من هذه الخطوط التي تكون «صغيرة» واحدة متماسكة يتم الإشباع والتعميق والتأثير علي المتفرج، الفيلم عن قصة حقيقة ظلت مجهولة لسنوات طويلة، ولم يكشف عنها إلا من خلال الصحفي «ماركوزيني» حيث أعلن عن وجود زوجة منسية مجهولة في حياة «موسوليني» تعرف بها في شبابه المبكر، وأنجب منها طفلاً اسمه «بنيتو البينو موسوليني»، ولكن الدوتشي تنكر لها بعد الحرب العالمية الأولي، فأودعت مصحة عقلية خاصة بعد أن أعلنت أنها زوجة موسوليني وأم ولده، ثم أودع الطفل احدي المدارس، ومع ذلك لم تتوقف السيدة عن ادعائها رغم عدم وجود وثائق تدعم كلامها، وانتهي الأمر بمكوثها في المصحات لمدة 11 عاما متصلة حتي وفاتها عام 1937، أما الابن الذي عمل بحارًا في الأسطول الملكي الإيطالي فقد مات أيضا في مصحة نفسية عام 1942 وعمره 26 عامًا، وكان يرد طوال الوقت بأنه ابن الدوتشي، وقد أثار هذا الكشف اصداء واسعة فصدر عنهم حكاية «موسوليني» و«ايدا» كتابان، وانتج عن تفاصيلها فيلم وثائقي، ثم تحمس الكبير «ماركوبيللوكيو» فكتب سيناريو «فوز» بالاشتراك مع «دانديلا سيسيلي» بناءً علي المعلومات الواردة في كتاب بعنوان «الابن السري للدوتشي».. قصة البينو موسوليني وأمه ايدا «السر». ولكن «بيللوكيو» الذي يعرف معني الفاشية، ويعرف جيدًا ما فعلته بوطنه ايطاليا، قرر أن يحتفظ للحكاية ببعدها الإنساني، ولكن وجد فيها ما هو أوسع من حكاية رجل خذل امرأة عشقته حتي النخاع وجد فيها حكاية «زعيم» خذل شعبًا سار خلفه كالمجانين اعتمادًا علي أوهام لا أساس لها من الواقع، ووجد فيها فرصة رائعة كتحليل تحولات الدوتشي السياسية التي تتم بالتوازي مع تحولاته السياسية، ووجدها أيضا فرصة لإدانة الغطرسة الانسانية، بل انطلق إلي مفهوم ديني يرفض فكرة تأليه الإنسان تحت أي ظرف من الظروف، وفتح بابًا واسعًا لإدانة كل الصامتين والمتحالفين مع موسوليني، ورغم أننا نتعاطف حقًا مع «أيدا» في صراعها العائلي مع موسوليني إلا أن هناك جانبا واضحًا يجعلنا نعتبرها مسئولة إلي حد كبير عن مأساتها سواء في عشقها الأعمي ل«موسوليني» أو لإيمانها الذي يتزعزع بقوته الوهمية ووعوده الجوفاء وكلها أمور مشتركة بين أيدا والإيطاليين، والنهاية واحدة: عشق جنوني انتهي إلي دمار شامل، وهذه بالضبط حكاية «أيدا»، وهي أيضًا حكاية إيطاليا. كل هذه الأفكار المهمة التي تنظر بعمق إلي تاريخ ايطاليا وتاريخ الفاشية معًا لا تقال لك بشكل مباشر، وإنما من خلال بناء درامي محكم الصنع يقوم علي عمودين: الأول هو رسم شخصية بنيتو موسوليني والثاني هو رسم شخصية «أيدا» موسوليني كما رأينا في الفيلم لا يختلف عن شخصية الواقعية، رجل شديد العنف يستخدم منصبه عند اللزوم، انسان شديد الثقة في نفسه إلي درجة الغطرسة، شخص فشل في أن يكون موسيقيا أو كاتبًا فأراد أن يكون زعيمًا، لا تجد فارقًا مثل حبه لوطنه وحبه لنفسه، ولعل هذه إحدي الصفات المشتركة بينه وبين هتلر. في الحقيقة لا يعرف موسوليني إلا مصلحته الشخصية، ولذلك يغير مواقفه السياسية تمامًا بعد أن شارك في الحرب العالمية الأولي، قبل الحرب كان اشتراكيًا معاديًا للحرب، وبعد ذلك أصبح فاشيًا مبشراً بفكرة إعادة مجد للامبراطورية الرومانية البائدة قبل الحرب كان معاديًا للكنيسة ومتظاهرًا ضد الملكية ومطالبًا بالجمهورية، وبعد الحرب اعترف للفاتيكان بدولة صغيرة في قلب روما، وأصبح رئيسا للوزراء بتكليف من الملك فيكتور عمانويل. كان يقول إنه يجب أن يغسل يده إذا اضطر لمصافحة أحد رجال الدين، فأصبح فجأة متحالفاً معهم، أما علاقته الأولي ب«إيدا» فقد كانت أيضاً عنيفة علي المستوي الجسدي والجنسي، بل إن الفيلم يجعل لقاءها الأول معه في ميلانو 1907 ملطخاً بالدم حيث احتمي بها هروباً من البوليس الذي أصابه. علي الجانب الآخر، رسمت شخصية إيدا التي لعبتها ببراعة الممثلة الإيطالية «جيوفانا ميزجيورنو» بطريقة تجعلها في منطقة بين العشق والجنون، أو كأنه جنون العشق الذي نسمع عنه، هي التي تمنح نفسها ل«موسوليني»، وهي التي تتأمله بإعجاب وهي تستمع إليه يجدف وينكر وجود الله، تلعب عيون «جيوفانا» وإيماءاتها دوراً محورياً في إشعارنا بأنها عندما تنظر إلي «موسوليني» فكأنها تنظر إلي إله بديل، أو كأنه منقذ قادم من السماء، وعندما تراه لأول مرة مع زوجته العلنية «راشيل» تثور «أيدا» بعنف غير مسبوق، ثم تتعرض للطرد مرتين علي يد «موسوليني»، مرة وهو جريح أثناء الحرب العالمية الأولي، والمرة الثانية عندما أرادت اغواءه أثناء الحرب العالمية الأولي، والمرة الثانية عندما أرادت اغواءه أثناء افتتاحه لمعرض فناني «المستقبلية» في عام 1917، والحقيقة أنه سواء في اللقاءات الحميمة بين «موسليني» و«إيدا» أو في مواجهاتها العنيفة والحادة، بدا كما لو أن إيطاليا في تلك السنوات المضطربة كانت جديرة برجلها العنيف الذي سرعان ما خذلها وسلمها الدمار. كانت عودة موسوليني من الحرب الأولي نقطة تحول فاصلة سواء علاقته مع «ايدا» أو مع وطنه، في الفيلم نشاهد طقوس زواج «ايدا» و«موسوليني» ونراها تضع وثيقة زواجها في تمثال طائر داخل منزل شقيقتها «ريكاردو» بعد أن حددت إقامتها مع ابنها «موسوليني الصغير» ولكن اصرارها علي إعلان هذه العلاقة، والرسائل التي كانت تبعثها لكبار رجال الدولة بمن فيهم الملك فيكتور عما نويل انتهي بها إلي انتزاع الابن إلي مدرسة داخلية، ونقلها إلي مصحة نفسية باعتبارها مختلة عقلياً، وفي مصحة «سان كليمنتي» في فينسيا يقابلها الدكتور «كابليتي» الذي يقتنع بسلامة عقلها، ولكنه ينصحها بأن تمثل علي الآخرين، وتتجاهل الحقيقة، ويقول في عبارة قوية تصف عصر الفاشية في إيطاليا بأنها اللحظة التي يجب علي الجميع أن يقوموا بالتمثيل. ربما كان يدعم السيناريو أكثر أن نري «موسوليني» وهو يصدر أوامره بقهر المرأة التي احبته في نفس اللحظة التي يلقي فيها خطبه التي يبشر فيها بصعود إيطاليا وبعثها من جديد، ولكن السيناريو قدم بذكاء خطبتين تثيران السخرية من «موسوليني» إحداهما بالألمانية تكريماً قيما لصديقه «هتلر» وقدم بالتوازي الابن «ألبينو موسوليني» وهو يقلد والده بصورة هزلية، ثم وهو في مصحة نفسية يواصل تقليد الأب، ليموت الابن قبل إعدام والده. مات الابن عام 1942، وتم شنق «موسيليني» وعشيقته الأخيرة «كلارا بيتاتش» في 29 أبريل 1945، وكان معهما 15 من اتباعهم حيث علقوا جميعاً من أرجلهم، ونالت جثة «موسليني» من البصق والصفعات والركلات وطلقات الرصاص ما لا يمكن حصره، في حين اكتفي «بيللكوكيو» بتحطيم ألوهية «موسوليني» المزعومة مرتين: الأولي عندما أسقط ابنه تمثال الأب في المدرسة التي كان يتعلم بها، والثانية عندما تقدمت آلة ضخمة من التمثال في نهاية الفيلم لتقوم بتهشيمه تماماً، ومثلما بدأ الفيلم بشاب اشتراكي متغطرس يتحدي الله ويجدف في حقه انتهي بتمثال هذا الشاب بعد تحوله الفاشي وقد تهشم، من هذه الزاوية بدأ الفيلم ترجمة حرفية لفكرة سقوط الإله البديل والوهمي، ولكن «بيللوكيو» لم ينس أبدا أن الكنيسة كانت ممتنة لاعتراف الكنيسة بدولتها، ونشاهد داخل المصحة احتفاء الراهبات بذلك، كما أن إحدي الراهبات تقول ل«ايدا» إن علي الأخيرة أن تكون سعيدة لأنها حظيت بشرف الاقتراب من «الدوتشي» والإنجاب منه، والحقيقة أن كثيرات كن يجدن في الحصول علي لقب عشيقة الدوتشي أو الإنجاب منه أمرًا يدعو إلي الفخر باعتبار أنه الرجل الذي تجسدت فيه إيطاليا مثلما كان «هتلر» الرجل الذي تجسدت فيه ألمانيا في بعثها الجديد! علي مستوي العناصر البصرية، أنت أمام جدارية عملاقة رسم ملامحها مدير تصوير فذ هو «دانييل ركبري» مشاهد «موسوليني» الأولي في اجتماعات حزب العمال الوطني الاشتراكي أو في لقاءاته الجنسية مع «ايدا» تجعله جزءًا من الظلام أو امتدادا له، «ايدا» أيضا تختار دائمًا أن تدخل إليه في دائرة الظلمة، وحتي مشاهدها وهي تربط له الحذاء في الشارع، أو تمنحه أموالها لكي يصدر جريدة «شعب إيطاليا» بعد أن ترك جريدته الأولي «أفانتي» أو «إلي الأمام»، كلها مشاهد لا تعطي ابدا مظهر المشاهد الرومانسية لأن مساحات اللون الأسود طاغية ومزعجة. في الجدارية الهائلة دمج رائع لمشاهد الجريدة المصورة، إعلان الحرب، تدفق الجنود، ومشاهد من أفلام روائية تعبر عن مشاعر الشخصيات مثل رؤية «ايدا» لفيلم ل«شارلي شابلن» تعبيرا عن تمزقها لعدم الاعتراف بابنها من «موسوليني»، ومثل رؤية «موسوليني» الجريح لمشاهد صلب المسيح في المستشفي ربما تعبيرا عن تحوله الديني ثم زواجه من «راشيل» التي ترتدي زي الراهبات، هناك مشاهد بأكملها شديدة التأثير استخدمت فيها موسيقي «كارلو كريفيللي» بطريقة تهز المشاهد من الأعماق، مثل مشهد تسلق «ايدا» للسور المحيط بالمصحة، وثورة «ألبينو موسوليني» وتحطيمه لتمثال والده، ومشهد هروب «ايدا» من المستشفي للقاء ابنها، ومشهد إعادتها من جديد في سيارة وسط تعاطف أهل مدينة «ترينتو» التي تنتمي إليها. ويظل دائمًا في الذاكرة أداء الرائعة «جيوفانا ميز جيورنو» الذي لا ينسي لدور «ايدا»، لقد حافظت دائما علي هذه الشعرة الفاصلة بين العقل والجنون، أحيانا كانت تميل إلي هذه أو تلك ولكن بحساب مقصود، لقد أحسست طوال الوقت أنها ضحية ولكنها مذنبة أيضا، أما «فيليب تيمي» فقد جسد عنف شخصية «موسوليني» وأنانيته وثقته المفرطة في نفسه إلي درجة الغطرسة، بدت الشخصية بأداء «تيمي» كما لو كانت تمثالا متحركا وجسدا ضخما يبحث عن مكان للسقوط! يقول «بيللوكيو» الكبير في فيلم «انتصار» إن صعود الفاشية علي أشلاء الإنسان لا يُعد فوزا فقد تعرضت «ايدا» وإيطاليا للدمار علي يد شخص واحد أعتقد أنه يصلح بديلا للإله، كان شعار «موسوليني» النصر أو الموت فكان الموت، ولكن الدرس الأهم هو أن الإله المزيف لا يسقط بمفرده، حيث يسقط معه كل الذين يؤمنون به، والعاشقون له إلي درجة الجنون!