لا يمكن بالتأكيد الجدل بشأن بصمة المخرج الفلسطيني «ميشيل خليفي» في مجال الأفلام الهوائية والوثائقية من خلال أعمال لا تنسي مثل الذاكرة الخصبة و«عرس الجليل»، ولكننا يمكن أن نتجادل حتي الصباح حول القيمة الفنية والفكرية لفيلمه الأخير «زنديق» الذي فاز بجائزة أفضل فيلم في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية بمهرجان دبي 2009، نندهش حقًا أن يكون هذا الفيلم المتواضع الذي شاهدناه ضمن فعاليات مهرجان الفيلم الأوروبي الثلاث من إبداع «خليفي» الذي يفترض أن نزيد أعماله نضجًا واحترافًا مع مرور الزمن، وربما لسوء الحظ أننا شاهدنا «زنديق» في حفلة تالية لعرض رائعة المخرج الإيطالي الكبير «ماركو بيللوكيو» التي تحمل اسم «انتصار» أو «mimcera» بالطبع لا نحب المقارنة بين «تبللوكير» و«خليفي» ولكن ماذا نفعل إذا كان الفيلمان ينظران إلي الخلف، ويحاولان التعاطي مع الماضي، شتان الفارق في هذه الرؤية تحديدًا بصرف النظر عن التعبير الفني عنها: فمن رؤية ناضجة واعية عند «بيللوكيو» تنطلق من الخاص إلي العام إلي الإنساني، إلي رؤية غريبة عند «خليفي» تتأرجح بين سذاجة الوضوح وتشوش الغموض، ومن اتقان احترافي في كل عناصر العمل السينمائي عند «بيللوكيو» خاصة في مجال التشخيص إلي ما يقترب من أعمال الهواة عند «خليفي» رغم وجود «محمد بكري»، أشهر مشخصاتي فلسطيني في تعاونه الأول مع المخرج الكبير الذي درس وعاش ودرس السينما في بلجيكا. مشكلة فيلم «زنديق» مزدوجة: مشكلة فكر ومشكلة فن بطل الحكاية مخرج فلسطيني عائد من أوروبا لانجاز فيلم وثائقي عن شهادات ضحايا نكبة 1948، وكان التصوير «رام الله»، ولكنه يضطر أن يذهب إلي مدينة «الناصرة» مسقط رأسه لكي يشارك في جنازة أحد أعمامه، ويزور أيضًا قبر والديه، عندما يعود المخرج إلي «رام الله» لاستكمال تصوير فيلمه يتلقي تليفونًا من شقيقته بخبر سيئ حيث قام أحد أبناء عمه بقتل رجل إثر شجار، ونتيجة لذلك أصبح كل رجال عائلة المخرجين مهددين بالقتل لأسباب ثأرية قبلية. أنت تتوقع أن المخرج المشغول بفيلمه، والذي رفض أن يبيت ليلة بعد ذهابه إلي المقابر في «الناصرة»، إن يرفض العودة من جديد إلي حيث هذا الصراع والخطر، ولكن «خليفي» - وهو أيضا كاتب السيناريو - يرد لبطله أن يعود ليبدأ رحلة بين الماضي والحاضر، بين ذاته وواقعه، ويفترض من خلال هذه الرحلة أن يتغير الرجل، وأن يولد من جديد. هذا هو إطار الحكاية، ولا شك أنها قصة يمكن أن تعد بفيلم يريد أن يقول شيئًا رغم أن فكرة العودة والاكتشاف ليست جديدة بالنسبة للسينما الفلسطينية، ولكن مشكلة «زنديق» ليست في التيمة التي اختارها «خليفة»، وإنما في معالجتها الركيكة فنيا وفكريا مما جعل الفيلم يجمع بين نقيضقين: وضوح ومباشرة تصل إلي حد السذاجة، وتشوش حقيقي يجعلك غير قادر علي أن تبتلع أشياء كثيرة أولها هذا الاسم العجيب «زنديق».. كان غريبًا فعلاً أن يلجأ «خليفي» إلي هذا المصطلح الديني الإسلامي وهو يناقش قضية دنيوية تختلف حولها الآراء، سواء الموقف السياسي من المشكلة الفلسطينية، أو الموقف من الماضي علي وجه العموم، الزندقة إحدي مراتب العصيان ولا تعلوها إلي مرتبة الكفر، ولها أيضًا عقوبتها وضوابطها الشرعية فمن هو الزنديق يا تُري في فيلم «زنديق»؟! ليس أمامنا إلا هذا المخرج البائس الذي لعبه بفتور حقيقي المشخصاتي القدير «محمد بكري»، وما الذي فعله هذا الرجل حتي يستحق هذا الوصف البشع؟ من حيث ما شاهدناه لا أظن أن هذا المخرج العائد إلي وطنه ارتكب ما يستحق الإدانة، بل إن ضجره وقرفه لا يجد ما يبرره اللهم إلا توقفنا عند علاقته العربية بمساعدته الشابة التي لعبت دورها «ميرا عوض»، والتي أراد لها «ميشيل خليفي» أن تكون رمزًا ساذجًا إما للوطن المفقود وللأمل الضائع، وهو رمز استهلكته السينما المصرية العربية بصورة تدعو للرثاء. كل ما شاهدناه، رجل في منتصف العمر، وسيم ودون جوان سابق وحالي، يتعرض لمأزق عاطفي مع مساعدته التي اكتشفت خيانته، وهذا مأزق يمكن أن تتعرض أي شخصية من نفس الطراز في أي فيلم أوروبي معاصر، وربما بنفس التفاصيل، لا نستطيع مثلاً أن نقول أن هذا المخرج قد انسلخ عن وطنه، فقد جاء لتحقيق عمل وثائقي عن ضحايا النكبة الذين يتم حشد شهاداتهم المسجلة والمصورة في شكل فواصل تحاول أن تمسك أجزاء السيناريو الضعيف، أي أن «خليفي» الذي اشتهر بالمزج البارع بين التسجيلي والروائي فشل أيضًا في ممارسة هوايته هذه المرة. من الطبيعي جدًا أن يترك المخرج العائد الناصرة لاستكمال تصوير فيلمه ومن الطبيعي أن يبتئس لنهاية علاقته مع مساعدته الشابة التي يبدو أنه يحبها، ولكن السيناريو يتربص بالرجل، ويريد أن يجعل لمأزقه مدلولاً سياسيا، وتتجسد السذاجة والمباشرة بوضوح عندما يقال بصراحة أن الفلسطيني في الخارج والفلسطيني في الداخل في السهم سواء، وبصرف النظر عن أن ذلك ليس صحيحًا علي إطلاقه فإنه لابد لذلك أن يعود المخرج إلي «الناصرة» تاركًا عمله لمواجهة صدام عائلته مع عائلة أخري قتل أحد أفرادها، ومرة أخري لن تصدق أن الرجل يمكن أن يذهب إلي الخطر بقدميه، ويتسع الجزء الأول لعلاقته بين المخرج العائد وشابة فلسطينية لا تكتمل، ويتسع لثرثرة ساذجة عندما يقبِّلها بعُمق ليؤكد لها أن قُبلة الفلسطيني لا تختلف عن قُبلة الإسرائيلي، ولكنها تتركه فجأة إثر ضجة في الشارع دون أن نفهم شيئًا، ويبدو أنها اكتشفت أن قُبلة الفلسطيني لا بأس بها، ولكن قُبلة الإسرائيلي ألذّ.. ألذّ.. ألذّ! في الجزء الأساسي الذي يشكل جسم الفيلم تبدأ الرحلة مع المخرج العائد، وللأسف لن تجد الكثير مما يستحق أن يتغير الرجل بسببه، نصف الوقت تقريبًا والرجل يبحث عن سرير لينام فيه في أحد الفنادق بعد أن وجد المطاردات مستمرة داخل الناصرة بين عائلته والعائلة الأخري وكأنه كان ينتظر مثلاً استقبال الفاتحين، يتكرر رفض استقبال الرجل في الفنادق لأسباب مفتعلة: في أحدها يقول له رجل الاستقبال أن لديهم غرفًا وأسّرة صالحة لكل شيء إلاّ للنوم، وفي فندق آخر يجد المكان تحت التجديد، ويرفض صاحب الفندق استضافته بعد إجراء اتصال تليفوني، وفي فندق ثالث يتم استقبال رجل وصديقته ومجندات وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي، ويتم رفض استقبال المخرج، ما دلالة ذلك؟ وما الذي فعله المخرج ليستحق الرفض في وطنه الذي عاد إليه ليترجم أوجاعه في شريط سينمائي؟ تتداخل شهادات فلسطينية مسجلة مع أحلام المخرج بمساعدته التي رفضته أيضا، ونسمع كلماتها وهي تطلب منه أن يحرق أشياءه، فتقوده قدماه إلي بيته القديم، يدخله ويستحضر امه، ويسألها أسئلة تجعلك تضحك من فرط سذاجتها، حيث يتساءل لماذا لم يتركوا المكان؟ فترد الأم: وهل كان من الأفضل أن نتركه، وتنتهي زيارة البيت بإحراق كل المتعلقات بما فيها مفتاح المنزل في دلالة رمزية واضحة بالتخلص من الماضي تماما لكي يعرف المخرج طريقه إلي المستقبل الذي يتمثل في طفل صغير يقابله جاء من غزة بعد أن سُجن والده الحمساوي المناضل، ورغم أن ذلك يفتح بابا جديدا للتساؤلات إلا أن الفيلم ينتهي بالمساعدة الشابة وهي تغوص في الماء بينما المخرج يحاول أن يتجه إليها، وهكذا ننتقل من الوضوح الساذج إلي الغموض المشوش حيث يفتح الباب للمستقبل ويغلق في نفس الوقت! اعترف أنني بذلت مجهودا ضخما لكي أفهم شيئًا له معني مما رأيت، فبصرف النظر عن تهافت البناء والطريقة الغريبة التي رسمت بها شخصية الرجل وكأنه سائح يزور وطنه، فإن المشهد الوحيد الذي يبقي في ذاكرتك هو مشهد إحراق ذكريات الماضي بما فيها مفتاح المنزل، هنا رؤية لا يمكن ابتلاعها لأنه ماذا يبقي من فلسطين إذا تم إحراق الماضي؟ أفهم أن ينتقد خليفي طريقة تعاطينا غير الصحية مع الماضي التي تجعلنا أسري له ولكن أن يتم إحراق الماضي فهو أمر غير مسبوق ولا يستقيم أبدا في قراءة مخرج كبير قدم قصيدة حب للذاكرة الخصبة؟ لماذا لم يحرق اليهود ذكرياتهم المريرة؟ ولماذا لم يفعل ذلك الألمان مع عقدة النازية؟ ولماذا لم يفعل «بيللوكيو» ذلك في فضحه لكوارث الفاشية من خلال مأساة «ايدا دالسر» مع زوجها الدوتش الكذوب؟ التناقض أيضا صارخ لأن الشخص الذي سيقوم بحرق متعلقات المنزل هو نفسه المخرج العائد إلي وطنه ليسجل ويوثق ذكريات جيل النكبة. كل ما فهمته أن «خليفي» أراد محاكمة بطله وربما جيله الذي لم نره يفعل شيئًا يستحق عليه هذه المحاكمة، ثم أراد أن يجعله يتغير ولا أعرف بالضبط ما الذي فعله يستحق عليه أن يكون مطالبا بأن يتغير.. مجرد ثرثرة فكرية وركاكة فنية وأفكار مباشرة يمكن طرحها من باب الرفاهية بين المثقفين علي المقاهي الأوروبية، يكفي أن تقارن «زنديق» وبطله.. رحلته بين الماضي والحاضر بالفيلم الرائع «الزمن الباقي» وبطله الصامت ورحلته بعد العودة بين الماضي والحاضر.. لا أقارن هنا بين أساليب التعبير المختلفة، ولكني أتحدث عن نضج الرؤية وعمقها وتأثيرها، إنه بالضبط الفارق بين التجربة الحية الخلاقة والثرثرة الفارغة خاوية المعني! بدا لي أيضا أن «محمد بكري» في أضعف حالات كان تائها حائرا مثلنا في فهم شخصية المخرج، وبدت «ميرا عوض» في دور المساعدة الشابة أضعف موهبة وأقل حضورا من أن تكون تعبيرا عن رمز وحلم وأمل، وأضاف أصحاب الأدوار المساعدة إلي الفيلم هبوطا علي هبوط.. بدا كما لو أننا أخيرا أمام نوعية من الأفلام تحاول أن تقول أشياء كثيرة.. ولكنها في النهاية لا تقول أي شيء!