من يبتعد عن القاهرة ويزور أي قرية أو نجع في الدلتا أو الصعيد، سيجد معارك حامية الوطيس علي الفوز بمقعد نيابي، وهو أمر قد لا يبدو واضحا للعيان في المدن الحضارية خاصة العاصمة، التي تسجل في كل انتخابات أقل نسبة تصويت، ولا أتوقع انتفاضة تصويتية في القاهرة خلال الانتخابات القادمة، رغم حمي اللافتات وجولات المرشحين التي تجتاحها. لماذا تبدو الانتخابات في الريف ساخنة عن المدن؟ الإجابة بسيطة جدا، لا تتعلق بحضور طاغٍ للأحزاب بعيدا عن العاصمة، ولا زيادة عدد المهتمين بالعملية السياسية، ولا تعني تصاعدا في نسب الوعي السياسي، لكنها تعكس حالة من التنافس العائلي والقبلي علي المقعد النيابي، لعدة أسباب، منها ما يتعلق بالمنافسة التقليدية بين العائلات علي أن يكون مقعد مجلس الشعب في العائلة، ومنها أيضا أن استقرار المقعد النيابي في عائلة بعينها يعني الحفاظ علي الامتيازات التي قد تحصل عليها العائلة بشكل فردي أو جماعي من وراء المقعد النيابي. مهمة نائب الشعب الأساسية هي الرقابة والتشريع، أي الرقابة علي الأداء الحكومي، وتشريع قوانين جديدة، لكن الرقابة علي الحكومة غالبا ما تغيب داخل المجلس النيابي الذي يحتفظ فيه الحزب الحاكم بأغلبية كبيرة تفوق الثلثين، ففي هذه الحالة تتم الرقابة داخل الحزب والحكومة والدوائر السياسة الحاكمة، ولا تنتقل إلي البرلمان بشكل علني. أما التشريع فهو غالبا ما يأتي من الرئيس أو الحكومة، أما الطرف الثالث الذي له حق اقتراح التشريعات وهو البرلمان فغالبا ما يكتفي بدراسة التشريعات المحالة إليه، وإدخال بعض التعديلات عليها، وحتي يكون البرلمان مشرعا لا بد من وجود مساعدين للنائب، يعملون في مكتبه بمجلس الشعب، ويتلقون رواتب من المجلس، كما في برلمانات عدة في العالم. لكن هذا التخصص غير موجود في البرلمان المصري، وبالتالي لا يساهم البرلمانيون مساهمة جدية في التشريع لأنه ليس لديهم مساعدون سياسيون أو قانونيون، يقومون بدراسة التشريعات المعروضة علي المجلس، ويقدمون الاسشارة للنائب حتي يمكنه العمل بها. ولأن نائب الشعب غالبا ما لا يقوم بمهامه النيابية بالشكل المتعارف عليه عالميا، ولأننا في الحقيقة ليس لدينا احزاب سياسية فاعلة ومنتشرة، وقادرة علي مخاطبة الجماهير والوصول إليها، وطرح أفكارها، واجتذاب عضويات جديدة ودائمة في الأحزاب، ستظل الانتخابات ساخنة في الريف، لا يهتم بها أحد في الحضر، وتتحول من منافسة برلمانية علي صناعة مستقبل وطن، والمشاركة في الحكم، والرقابة علي الآداء الحكومي، إلي صراعات عائلية وقبلية علي النفوذ والسلطة التي يحققها المقعد النيابي.