لماذا قدم 790 مرشحًا على 508 مقاعد.. وهل يطعن نفسه بسكين تعدد الترشيحات؟ هذا الذي جري بعد إعلان الحزب الوطني لقوائمه يوم الأحد كان مدهشًا للغاية، انبري عدد كبير من الإعلاميين والمحللين في محطات تليفزيونية مختلفة.. وأيضًا بعض السياسيين.. لكي يتآسي ويتحسر علي الأسلوب الانتخابي الذي اتبعه الحزب في اختيار مرشحيه.. متوقعًا أن يؤدي هذا إلي خسائر انتخابية له، وحين نكتشف أن هذا التآسي وذلك التحسر جاء من عدد من معارضي الحزب الوطني فإن الفرد يجب أن يتساءل: لماذا يخاف المعارضون علي مصلحة هذا الحزب.. أليس من أمنياتهم أن يخسر.. اتركوه يخسر إذن إن كان قد أخطأ؟! بالطبع الأمر لا يتعلق بخوف المعارضين علي مصلحة حزب الأغلبية، وخشيتهم من أن يؤدي دفعه بعدد مضاعف من المرشحين إلي فقدانه مقاعد يسيطر عليها، كما أنه لا يمكن افتراض أن المعارضين يعتقدون أن الحزب قد طعن نفسه بسكين التعدد، وإنما هناك سببان علي الأقل لهذا التآسي والتحسر علي أسلوب الترشيح، الأول مبني علي الفضول الذاتي والرغبة الحادة في معرفة أسباب تلك الخطوة المفاجئة، في ضوء شح المعلومات التي أتاحها الحزب للتفسير، والثاني ناتج عن أن بعض الإعلاميين يريدون أن يستجلبوا قدرًا من المعلومات للمنافسين للحزب الوطني.. منافسون راغبون في أن يفهموا ما الذي جري. النقطة الثانية تحديدًا مرتبطة بمرشحي الإخوان، الجماعة المحظورة، التي عبّر أكثر من صوت فيها لوسائل الإعلام عن قلقهم من الغموض الذي يحيط به الحزب الوطني نفسه، وقد سمعت د.عصام العريان في أحد البرامج يتساءل عن الأسباب التي دعت الحزب إلي أن يفرض حظرًا علي أسماء مرشحيه في المجمعات الانتخابية، ما عبَّر عن حالة قلق واستفهام، إذ ما الذي يضير البعض من أن يكون لدي حزب يدعي أنه يفتقد الشعبية أسراره وخفاياه وأسلوبه الخاص في التعامل مع مرشحيه إلا إذا كان لديه تخوفات حقيقية وشبق مهول للحصول علي أي معلومات. إن منبع الدهشة وملتقي الاستفسارات ومحط التساؤلات الآن هو: لماذا توسع الحزب في أن يختار ترشيحات ثنائية وثلاثية ورباعية لعدد كبير جدًا من المقاعد في عشرات الدوائر.. ما مقصده؟ وكيف سيدير المعركة الانتخابية بهذه الطريقة؟ لا شك أننا بصدد(تكتيك انتخابي مختلف) علي حد قول أمين عام الحزب صفوت الشريف في اتصال تليفوني معه ظهيرة يوم الأحد، هكذا قال لي، وكان أن ربطت بين قوله هذا وبين تصريحه الذي أدلي به بعد انعقاد هيئة المكتب يوم السبت حين قال: (إن الحسابات الانتخابية تختلف كل ساعة في جميع الدوائر).. وهو كلام يعني أن الحزب يصر علي أن يتفاعل بمرونة مع المتغيرات وبأسرع إيقاع ممكن، هو نفسه الذي كان قد قال موجهًا كلامه للمنافسين في الانتخابات خلال اجتماع المجلس الأعلي للسياسات: (إن لنا طريقتنا.. وما يجري في داخل حزبنا لا شأن للآخرين به). أمين السياسات من جانبه قال في ذات الاجتماع: (سوف نخوض المعركة الانتخابية علي كل مقعد في كل دائرة.. ولدينا أساليبنا).. والمؤكد أن (الوطني) قد فاجأ الجميع بأسلوب (الترشيحات المتعددة).. وبما في ذلك أنه فاجأ مرشحيه وكوادره.. ولا شك كذلك أنه يتبني تكتيكًا يتميز بالمغامرة.. غير أنه في ذات الوقت يقوم علي أسس علمية وإحصائية ومؤشرات واقعية من قلب الدوائر.. أثق في أنها دقيقة.. بحيث يمكن أن نصف هذا الأسلوب بأنه (التعدد المنضبط).. القائم علي (ذكاء تنظيمي) جدير بالانتباه.. والمغامرة لا يمكن أن تقوم بدون وعي عميق.. والذكاء لا يمكن أن يتاح لحزب عشوائي لا يسيطر علي كوادره. تفسير التكتيك ما يمكن قوله في هذا السياق.. يندرج تحت عنوانين.. الأول هو المعاني التنظيمية التي يمكن كشفها في (تكتيك) حزب الأغلبية.. والثاني هو الدلالات السياسية للخطوة القنبلة التي تم تفجيرها يوم الأحد. تحت العنوان الأول نرصد ما يلي: • (التعدد المنضبط) يعني أن الحزب قد لبي نداء التغيير دون أن يخسر أيًا من كوادره المهمة.. أتاح الفرصة لوجوه جديدة عديدة.. وفي ذات الوقت لم يحجب الفرصة عن وجوه موجودة لا يمكن إقصاؤها من الساحة لمجرد أنها صاحبة خبرة. • (التعدد المنضبط) حقق استجابة ملموسة لجميع القوي الاجتماعية المؤثرة في الانتخابات وفي تركيبة الحزب، خصوصاً في الدوائر الريفية، حيث توجد تحسبات عائلية وحسابات قبلية وكتل أصوات ذات انتماءات مختلفة،إذا ما أعلن الحزب أنه يختار من إحداها دون غيرها فإن هذا يغضب غيرها.. وتلك معايير لا بد أن تراعي من حزب يعتبر نفسه (المظلة الأعرض لمجموعة هائلة من المصالح المجتمعية). • استوعب هذا (التعدد المنضبط) كل الأسماء التي كشفت عنها استقصاءات الرأي، في مساحات متقاربة، وكل الكوادر التي قدمتها انتخابات الحزب الداخلية في مؤشرات تكاد تكون متساوية، تاركاً الفرصة للرأي العام الانتخابي أن يقرر هو من يريده، دون أن يغامر بالانحياز إلي اختيار دون آخر.. ودون أن يؤدي اختياره إلي المراهنة علي مرشح له نصف شعبية أو لن يحقق الأغلبية بمفرده. • يؤدي هذا (التعدد المنضبط) إلي تعلية فرص الفوز بالمقاعد في الدوائر الساخنة، من حيث إنه لا يترك الساحة خالية أمام مرشحين منافسين في قطاعات من هذه الدائرة أو تلك.. بمعني توضيحي إذا كان مرشح المعارضة في دائرة ريفية ينتمي إلي مركز المدينة في حين أن مرشح الوطني ينتمي إلي القري، وكلاهما يحصل علي الكتل التصويتية في كل قطاع.. فإن وجود مرشح للوطني إضافي في المركز أمام مرشح المعارضة لن يجعله ينفرد بمجموع أصوات المركز.. وهكذا. • يضمن هذا (التعدد المنضبط) ألا يكون هناك تنافس بين عناصر منتمية للحزب الوطني بدون أن تكون علي قوائمه وبالطعن فيه.. لأن المرشحين الذين لم يتم اختيارهم سيكونون خصوماً أساسيين ضد مرشح الحزب لإثبات جدارتهم.. في حين أن التكتيك الحالي أولاً يقلل فرص التناحر وتكسير الأصوات وتفتيتها ما بين عدد مهول من المرشحين المنتمين للحزب.. ويبقي فرصه في الحصول علي المقعد أعلي بكثير من أي وقت آخر. مهلة ال48 ساعة تبقي هنا تحت نفس العنوان التنظيمي الأول مجموعة من الاستفسارات. أولا: هل تعدد المرشحين يعني أن هناك مرشحين أصليين ومرشحين احتياطيين؟ أمين التنظيم المدافع الأول عن هذا التكتيك الانتخابي والذي يحظي بدعم كامل من قيادة الحزب في تنفيذه أصدر مساء الأحد تصريحاً يقول فيه: إن كل المرشحين علي قائمة الوطني هم مرشحون أصليون ولا يوجد احتياطيون.. وأن كل الرموز الانتخابية المختارة هي رموز للحزب الوطني. ثانيًا: إلي جانب من سوف يقف الجهاز التنظيمي للحزب؟ في الإجابة علي هذا السؤال يبدو الأمر واضحاً جداً.. وفقًا لنتائج المجمعات الانتخابية.. كل فريق اختار مرشحًا سوف يقف إلي جانبه تحت عباءة الحزب بقصد أن يفوز.. لأن أغلب الدوائر التي فيها تعدد ترشيح أظهرت المجمعات بالفعل أنها تتوزع بين مرشحين.. أو أكثر.. ومن ثم فإنه حين يخوض أحد المرشحين انتخابات الإعادة يقف جميع التنظيميين إلي جانب المرشح الذي يمثل الحزب. ثالثًا: هل يعني تعدد الترشيحات في دوائر مشاهير النواب أن هناك توجيهًا بإطاحة هذا أو ذاك؟ الإجابة التي تقولها مصادر الحزب هي أن هذا غير صحيح علي الإطلاق (كلهم أبناء الحزب).. ونترك للرأي العام أن يقرر من يمثله. رابعًا: هل سوف تتفرج قيادة الحزب علي الصراعات الانتخابية من بعيد؟ الإجابة أيضًا من مصادر الحزب هي أن هذا التعدد (منضبط) و(مخطط).. ويخضع لاشراف كامل من غرفة عمليات الحزب بقصد توجيه طاقته إلي المعارضين وليس إلي الحزب.. وهي طاقة موجودة ولا بد من الاستفادة بها. خامساً: كم يبلغ عدد مرشحي الحزب علي وجه الدقة؟ علي المقاعد ال508 يخوض المعركة 790 مرشحاً.. الدوائر التي فيها ترشيحات فردية لا تزيد علي 40%.. وبما في ذلك أن هناك ترشيحات متعددة علي مقاعد (كوتة المرأة) علي في المحافظات الحدودية لأسباب قبائلية.. وفي هذا السياق نذكر أن من أبرز الأسماء التي تخوض ترشيحًا متعددًا: عبدالرحيم الغول مصطفي السعيد أحمد شوبير عمر هريدي إبراهيم الجوجري. سادسًا: هل وصلت إلي الحزب ردود أفعال غاضبة بعد إعلان الترشيحات؟ طبعا.. والتقدير هو أن هذه المشاعر سوف تنتهي خلال أمس واليوم وربما غدًا.. وهي متوقعة بالتأكيد.. ويتم التعامل معها.. بعده سوف يتفرغ المرشحون إلي ما يمكن وصفه بأنه (سباق تتابع سياسي) ينتهي بوصول مرشح من الحزب الوطني إلي المقعد المستهدف خصوصًا في الدوائر الساخنة. مؤشرات سياسية نأتي إلي العنوان الثاني حول هذا الموضوع المثير للجدل.. وهو المؤشرات السياسية التي يكشف عنها أسلوب (التعدد المنضبط).. ويمكنني قراءة الصورة كما يلي: • تؤكد هذه الترشيحات المتعددة أنه لا توجد أي صفقات سياسية بين الحزب الوطني وأحزاب المعارضة.. وأنه يسعي عمليًا إلي الحصول علي كل المقاعد.. وأنه لم يُخل أي دائرة لصالح المعارضة كما ادعي بعض الأقاويل في الأسابيع الأخيرة.. الحزب هنا يعقد صفقات مع نفسه دون أن يعقد صفقات مع غيره. • يشير الأمر إلي أن خطط الحزب تنبني علي أنه لن تنتهي المعركة الانتخابية في يوم 28 نوفمبر، وأن جولة الإعادة لن تكون مجرد جولة تكميلية، بل هي جولة مهمة ومؤثرة في نتيجة الانتخابات، وهو أي الحزب الوطني عمليًا أكد أن ما لا يقل عن 50% من الانتخابات سوف تخضع لجولة إعادة. • يعبر هذا التكتيك عن جدية حزبية شديدة في التعامل مع الانتخابات.. وإلا لكان الحزب الوطني قد أعفي نفسه من كل هذا الجدل المتوقع حول طرق الترشيح.. وإلا لخاض الانتخابات بطريقة يسرٍ لا تفرض عليه جهدًا تنظيميًا مضاعفًا يسعي إلي إنجاح كل المرشحين التابعين له. • يريد الحزب أن يلبي نداءات التغيير في نفس الوقت دون أن يخسر أيًا من كوادره المخضرمة.. وبحيث يكون المعيار هو الصندوق الانتخابي.. فإذا ما جاءت الوجوه المخضرمة فإن هذا هو اختيار الشارع. • يقول الحزب: إن معظم المعركة الانتخابية يجري علي أرضه وفي ساحته. • يمنح الحزب نفسه فرصة أكبر لإبقاء جسوره موصولة مع قوته الضاربة في المعركة الحالية أو في أي استحقاقات أخري. بمعني أنه لم يتح الفرصة لنشوء قطيعة سياسية أو حتي غضب عابر بينه وبين قوي اجتماعية قد تتضرر لأنه لم يرشح من بين أبنائها من تعتقد أنهم أقوياء وجديرون بتمثيل الدائرة التي تعيش فيها تلك القوي الاجتماعية. • يمنح الحزب مصداقية إضافية للمجمعات الانتخابية، وبحيث تكون هذه الآلية فعالة فيما بعد.. لأن من لن تقدمهم مرة تلو أخري لن يخوضوها ثانية. • يضع حزب الأغلبية نصب عينيه معركتين انتخابيتين تاليتين وهو يخوض المعركة الحالية.. أي الاستحقاق الرئاسي في 2011 والاستحقاق التالي في انتخابات 2015 وبحيث يقلل من تكلفة التربيطات الانتخابية الواجبة للتاليتين.. إذ لو خرج من المعركة الحالية مصابًا بجراح عدم الالتزام فإنه سوف يجد صعوبة في لم الشتات. • ستتكون الأغلبية البرلمانية التي يسعي إليها الحزب الوطني خلال الانتخابات الحالية من مرشحين منتمين للحزب الوطني أيًا ما كان رمزهم الانتخابي، ولن يواجه الاتهام بأنه استجمع تلك الأغلبية من المرشحين المستقلين كما قيل عنه من قبل عقب انتخابات 2005. متابعة يومية للأنتخابات (شئون سياسية)