أما الحكم والجزاء فهو موضوع من موضوعات الدين العام وليس من الشريعة، وليس من الحكمة، وأيضا ليس من الملة التي هي الإسلام لله وحده والحنف عن الشرك به، وقد سمي الله جملة الأحكام والجزاءات التي يتم الفصل بها بين الناس ومجازاتهم، سماها دينًا، فكل حكم ومجازاة تمت نسبتها إلي الله فهي دين، سواء كانت من الله حقا، أو تمت نسبتها إلي الله زورا وكذبا، ويدل علي ذلك أن الله قد سمي يوم القيامة بيوم الدين، أي يوم الحكم بين الناس ومجازاتهم، قال تعالي: (مَالِكِ يوْمِ الدِّينِ). (4- الفاتحة). (وَقَالُوا يا وَيلَنَا هَذَا يوْمُ الدِّينِ. هَذَا يوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). (20 -21 -الصافات). (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوْمُ الدِّينِ. يوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيئًا وَالْأَمْرُ يوْمَئِذٍ لِلَّهِ). (17: 19- الانفطار). وقد سمي الله أحكام أهل مصر ومجازاتهم للسارق في زمن يوسف عليه السلام، سماها دينًا، قال تعالي: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيوسُفَ مَا كَانَ لِيأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ). (76 - يوسف). أي ما كان ليوسف أن يأخذ أخاه بحكم وجزاء الملك، وإنما أخذه بحكم وجزاء شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السلام، حيث قد أمر يوسف عليه السلام بوضع السقاية في رحل أخيه، ثم أمر أعوانه أن ينادوا عليهم ويقولوا لهم إنكم لسارقون، ثم سألهم أعوان يوسف عليه السلام، ما جزاء السارق الذي نجد السقاية في رحله؟، فأجاب إخوة يوسف وقالوا: (جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي بمثل هذا الجزاء نجزي الظالم السارق، وهذا هو النص الكامل لتلك القصة كما جاءت في سورة يوسف، قال تعالي: (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ. قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ. قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ. َالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ. قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ. قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيوسُفَ مَا كَانَ لِيأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). (70: 76- يوسف) مفهوم الملة في اللسان العربي: ينبغي أولا أن نفرق بين دلالات الكلمات التالية: الملة، الإملاء، والملأ، فكل منها تدل علي فعل مغاير للأخري وذلك علي النحو التالي: • الملة: من الفعل (مَلَي) بمعني الفعل الممتد في زمان طويل، ويدل علي ذلك ما جاء في كتاب الله حكاية عن قول أبي إبراهيم لإبراهيم: (واهجرني مليا). (46- مريم)، فقد طلب منه فعل الهجر الممتد في زمان طويل. والملة كذلك، فعل ممتد في زمان طويل. • الإملاء: من الفعل (مَلَوَ) وهو إمداد بشيء في طول زمان أو غيره، ومنه إملاء الكتاب قال تعالي: (فَلْيكْتُبْ وَلْيمْلِلِ الَّذِي عَلَيهِ الْحَقُّ). (282- البقرة). ومنه إملاء الله للظالمين، بطول العمر والسعة ورغد العيش والمال والبنون، وإملاء الشيطان للمرتدين، بطول الأمل والغرور والوعود الكاذبة، قال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَي أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَينَ لَهُمُ الْهُدَي الشَّيطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَي لَهُمْ). (25- محمد). (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيثُ لاَ يعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيدِي مَتِينٌ). (182-183- الأعراف). (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيفَ كَانَ عِقَابِ). (32- الرعد). (وَكَأَين مِّن قَرْيةٍ أَمْلَيتُ لَهَا وَهِي ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَي الْمَصِيرُ). (48- الحج). (أَيحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيرَاتِ بَل لَّا يشْعُرُونَ). (55- 56 المؤمنون). • الملأ: من الفعل (مَلَأَ) الذي يدل علي المساواة والكمال في الشيء، أي امتلاء الشيء بما يساوي كماله وقدره، ومنه (الملأ) أي الجماعة من الناس الذين ملئوا سلطانا أو شرفا أو قدرا بين الناس، ومنه أيضا امتلاء جهنم بالكافرين والظالمين، قال تعالي: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). (119- هود). (قَالَتْ يا أَيهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِي إِلَي كِتَابٌ كَرِيمٌ). (29- النمل). (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ). (88- الأعراف). *باحث إسلامي- مقيم في أسيوط