وتذكرت سيدنا نوح الصابر الذي يبني سفينة وتطول به الأيام وهو يعلن أنه لا خلاص من الطوفان إلا بركوب سفينة.. لكن أين الأمواج التي تتحمل هذه السفينة.. ويعلن أنها قادمة لا محالة حيث لا نجاة إلا للمؤمنين الذين يركبون سفينة ويفور التنور ويأتي الفيضان. ونال سيدنا نوح من السخرية ما نال.. وأعوذ بالله أن أتشبه بنوح ولا بالفيضان.. ولكن صبرت مثله وأنا أعاني السخرية من العابرين يرونني جالساً أرضاً وسط المخلصين من عمال المسرح يمزقونه إلي قاعتين ( في غيبة كاملة من أي قرار من خارج المسرح) فلو أرسلت أسأل واستفتي الإدارة لطالت المناقشات وتضخمت اللجان الهندسية وغير الهندسية.. فقررت تحمل المسئولية مع زملائي من مهندسي المسرح والعمال الشهداء حيث نتوقع الإحالة للتحقيق لهدم المسرح وتقسيمه بدون أي أوامر عليا. وقد كان بدأ شكل قاعة 79 يظهر واخترعنا جداراً عازلاً من إمكانيات المسرح وبقايا ديكوراته بل دفعنا من جيوبنا ما يلزم من نفقات استكمال البناء الخشبي البسيط، وكان لابد من إزالة ميل أرضية المسرح بالقاعة الصغيرة لتكون مستوية تماماً. وتخلصنا تماماً من مقاعدها المتهالكة والقديمة جداً، وبدأنا في تجميع كل المقاعد المتوفرة بالمكاتب ومخازن الديكور في أي مكان، تحولت القاعة لكرنفال لما يمكن أن نطلق عليه (شيء للجلوس) منذ توصل الإنسان البدائي لفكرة (المقعد) جذع شجرة صندوق فوتيل، كرسي خشبي، كرسي طبي، نصف برميل، دكة.. الخ ومع ذلك ظهرت القاعة التي تتحلق مقاعدها حول فراغها الأوسط، وهي تطرح سؤالاً صعباً علينا، فماذا نضع بهذه المساحة الفارغة؟ وكيف نملأ هذا الفراغ بالعروض؟ علي فكرة الكلام ده كان سنة 1979 . نحن نحتاج لنصوص جديدة، لقد اعتبرت أن قاعتنا الصغيرة هذه هي خندق الهروب من الطوفان أو هي سفينة نوح التي نهرب بها من اختفاء الأرض بعد الطوفان، والحق أن أرضنا التي كنا نقف عليها وأعني به الإنتاج الكبير لم يعد هناك من الطاقة ولا الأفراد ولا الوقت ولا التمويل ولا النفس ما يسمح بالعودة إلي استخدام أربعين ممثلاً في عمل واحد. وتركزت دعائم مشروع شغل هذه القاعة في التطور علي الاعتماد علي القلة القليلة الباقية من شباب الفرقة الذين لم تخطفهم الشاشة الصغيرة ولا الكبيرة والذين يحلمون بها، لكن لم يصبهم الدور، وكلما مر فوج من الممثلين بي وأنا أعد القاعة وأزورها بأجهزة الإضاءة وأحاول زخرفتها ودهانها سألوا: كيف يكون الممثل وأين يكون الديكور.. وكيف نواجه جمهوراً يجلس خلف قفانا؟ وكانت الإجابة سهلة وميسرة.. لم تكن الحكاية فزورة، بل كانت حكاية قديمة مشروعة ومعلومة في كل كتب تاريخ المسرح، بل في الثقافة الشعبية الفطرية، إنه مسرح (للمة) يجري تكوينه في الطريق العام وفي أي تجمع. فإذا وقف شخص عاقل أو مجنون وسط الطريق وصرخ تجمع حوله مشاهدوه يسمعون له أو يشاغلونه أو حتي يضربوه، أو ينصرفوا عنه إن لم يقدم لهؤلاء ما يستحق جذب الخلق حوله. برز أمامنا أن حلقة المشاهدين تشبه حلقة الملاكمة أو حلقة السحر أو حلقة الذكر أو حلقة حول الحاوي والمشعوذ وتشبه كذلك وقوع حادثة في الطريق العام، أو حفل دفن لميت إنها دائرة خالدة واجتماع إنساني فضولي طبيعي يحدث في الحياة، وهو كذلك طقس مسرحي بائد وقديم وكذلك شديد الحداثة، وهو كذلك (سلاح رهيب) لهدم الأشكال الإيطالية المستقرة في المعمار المسرحي وهو كذلك الاختراع الذي أعلنه عمنا (بيتر - بروك) في تنظيره في كتابه (المساحة الفارغة) والنقطة المتحولة وهو نفسه ما يمارسه بروك مع من يذهب لملاقاته في ندوة أو ملتقي تدريبي إذ يجلسنا أرضاً في دائرة ويجلس مثلنا ونمسك كلنا بإيدي بعض متلاحمين متجاورين متلامسين في دائرة (شبه طقس) بدائي وسحري شكل إنساني وهو كذلك ما حققه الخواجة المبتكر البولندي والذي أسس حوكة مسرحية مهمة، وأعني به (جروتفكسي) حيث المساحة المسرحية كأنها حفرة والمشاهدون مرتفعون متحلقون وكأنهم يشاهدون (حشرات) أسفل منهم وهو نفس ما فعله في عديد من عروضه وهو نفس ما أسماه علماء المسرح الحلوين الميكرو مسرح أو (المسرح الميكروسكوبي) لقد تحولت إلي (درويش لقاعة 79) أعلن ليل نهار أهميتها وضرورتها خاصة وإنها تضع الممثل وجهاً لوجه مع مشاهديه في اختبار صعب لا مجال فيه لكسل في الأداء ولا أساليب الادعاء ولا الحيل المسرحية المحفوظة والموروثة في المسرح الإيطالي الذي يقوم علي المبالغة، والقاعة كذلك وبلغة (التليفزيون والسينما) هي القاعة التي تقرب عين المتفرج من وجه الممثل وكأنها عدسة الكاميرا في وضع (اللقطة المقربة) وللقاعة جمالياتها في الحركة، حيث الممثل يؤدي وهو وسط الدائرة ونسمي الممثل بالممثل المركزي لأنه نقطة متحولة ومتحركة ينقل شعوره من كل ذات جسمه لمشاهديه المحيطين به، وعليه أن يدرك أنه مراقب داخل دائرة متكاملة أو ناقصة أحياناً، وأنه خاضع لأداء جسدي متكامل وإن عليه أن ينسي ( تقاليد المواجهة المعروفة بالمسرح القديم) وإنه علينا الاقتراب من مشاهدينا ونسيان (جهارة الصوت وتضخيمه وتفخيمه) وتعليل الإسراف في استخدام الإشارة والحركة وكأننا (نمثل سينما أو تليفزيون) هنا انبسط الزملاء فالقاعة والتي هي سفينة النجاة سوف توصلهم إلي أرض السعادة أرض الأداء أمام الكاميرات الملعونة كانت أيام ومازال لدينا أيضاً شوية كلام.