قلت لنفسي إذا كانت الصحافة قد ضاقت بي.. فلأبحث عن فرصة أخري.. لعل أبي علي حق في أنه ليس علي أن أواصل في هذه المهنة.. كان رحمه الله قد توقف عن عملية أسبوعية لإثنائي عن الصحافة.. ولما توقف سنوات كنت أنا قد بدأت في التفكير في أن أهجرها. أرسلت طلباً إلي إحدي منظمات الأممالمتحدة لكي أعمل في قسمها الإعلامي.. كان هذا في عام 1996 .. وفجأة أرسل لي عادل حمودة يطلب أن أعود إلي العمل.. كان الرسول صديقي محمد هاني مدير تحرير «روزاليوسف» الآن.. رفضت.. وكرر هاني المحاولة.. ليس فقط لأن حمودة كان يكرر الطلب.. ولكن لأن هاني رأي أن هذا حقي وقد غاب عني لأسباب مفهومة. كان حمودة يشتري «الدستور» مساء كل يوم ثلاثاء.. موعد صدورها الرسمي هو الأربعاء.. وكان يوجه لها انتقادات عنيفة.. وكان يري أن عيسي سوف ينتهي متطرفاً ويطلق لحيته.. وبينما كان عيسي قد علقت في عنقه صحافة الاكتئاب الصارخة التي تدين أي شيء وكل شيء.. بما في ذلك شخصيات مصرية عظيمة في التاريخ.. كان حمودة قد علقت في رقبته اتهامات صحافة الجنس والإثارة.. خاصة مع نشره حلقات مسلية تحت عنوان (بنات العجمي).. ثم (بنات القمر).. نقلاً عن وقائع بيوت كانت تُفتح له لكي يزورها.. دون أن يدري أصحابها أنهم سوف يصبحون قصصاً مرمزة. عملياً، كان نائب رئيس التحرير ينتعش في الصيف جداً.. إذ يقضي ما بين الخميس والاثنين في العجمي والساحل الشمالي.. ويعود ليعمل بقية الأسبوع في المجلة.. انتقل طبقياً.. وكان قد بدأ يتعرف علي جلسات خاصة لها طقوسها في فيللات في المقطم.. لا يفيدنا هنا ذكر تفاصيلها.. وفي خضم التفاعلات ألقيت إليه ورقة بإيصال سيارة تلقاها ممدوح الليثي رئيس قطاع الإنتاج في التليفزيون.. وبدأ مسلسل (فضيحة علي النيل).. بخصوص حفل أقيم في فندق جراند حياة.. كان وقتها الميريديان.. وتناولت الحلقات شخصيات غير مصرية وفنانات.. وقال عادل حمودة فيما كتب: إن هذا الإيصال قد جاءه في رسالة غامضة تركت له في استعلامات مبني المؤسسة. تضخمت المسألة، لا سيما أن فيها مالاً وفناً وجنساً وشخصيات مشهورة مصرية وغير مصرية.. وصخبت الأجواء.. وأصبحت للأمر أبعاد مختلفة.. وإجراءات قانونية.. واعتبر حمودة أن هذا إنجاز صحفي كبير.. وقرر أن يسجله في كتاب.. فطلب مني أن أكتبه.. وأن يكون هذا كتاباً باسمي.. علي أن يراجعه هو.. ممتدحًا أسلوبي.. ومؤكدًا ما قال إنه قدرتي.. ولم أستطع أن أفهم الطلب.. ومن ثم تحركت علي خطين متوازيين.. خط دراسة أبعاد الأمر.. وخط العمل المتلكئ.. فإذا ما فهمت مبررات الطلب كان أن أوقفت العمل.. وبعد أسبوعين أعفاني من المسألة.. وقال إنه يريد ما كتبت.. فأخذ بضع أوراق. حوَّل حمودة حلقات مقالاته في الموضوع إلي كتاب.. وطبعته دار الخيال التي أسسها الزميل محمد الصباغ.. وتخزنت خمسة آلاف نسخة في مطبعة في بولاق.. ثم أرسلت أغلبيتها إلي شركة الأهرام للتوزيع.. ولكنها لم تخرج.. وافق عادل حمودة علي منع بيع الكتاب.. بعد اتصال من أحد السياسيين.. وأطلق أحدهم خرطوم ماء علي ألوف النسخ.. أعدمت بطريقة مختلفة.. وقال الصباغ فيما بعد إن حمودة عُوِّض مالياً عن عدم توزيع الكتاب الذي لم يعد يأتي بأي سيرة له في أي وقت.. ولست أعرف إن كان عُوِّض أو لم يعوض. وطبعت دار الخيال حلقات كتبتها في «روزاليوسف» خلال شهر رمضان.. وسمتها باسم (التحليل النفسي للأنبياء).. كان كتاباً مثيراً للجدل.. وجد فيه زميل راحل في جريدة الجمهورية أنه يجب ألا يصدر.. وإذا صدر فإنه يجب أن يصادر.. واستثمر رحمه الله علاقاته الدينية فوجدت الدنيا تنقلب رأساً علي رأسي.. وأشاع التطرف أن هذا الكتاب ممول للطعن في الدين.. وكتب زميل في جريدة «النور» التي توقفت فيما بعد أنني قبضت الأصفر الرنان.. وتزامن هذا مع قضية مدوية تخص الدكتور نصر حامد أبوزيد.. وفوجئت بأن الدعاية المضادة قد وصلت بتأثيرها إلي قلب بيتي.. وقال شقيقي عمرو: أراك تصلي.. وتصوم.. وقرأت كتابك.. لكن ما يكتبون عنك مزعج جداً. لم تكن مشكلة حمودة في أن هناك اعتداءً علي حرية الرأي يتعرض له زميل له في المجلة.. وإنما ما سوف تسببه هذه الضجة من شهرة لهذا الزميل الذي هو أنا.. خصوصاً أن مندوبي الصحف الأجنبية والمحلية كانوا يلاحقونني باعتباري صاحب كتاب مُصادر.. ومن ثم فإن المجلة لم تعبر عن مساندة حقيقية لي في المعركة.. وكان السند الحقيقي هو شيخ الأزهر الراحل فضيلة الدكتور سيد طنطاوي الذي أدلي بتصريح لجريدة «الشرق الأوسط» قال فيه إنه كتاب ليس فيه ما يقولون.. وحفظت القضية التي كانت قد بدأت نظرها نيابة الأزبكية.. وساندني فيها بالقانون دون أجر الأستاذ الفاضل عبدالله خليل المحامي. بعد هذه التجربة العصيبة كونت وجهة نظر مؤداها أن المسألة الدينية لا يمكن التعامل معها بمعايير الصحافة.. وأن التفكير في الأمور الدينية أيا ما كان حسن نواياه المستنيرة لا بد أن يكون من أرضية عقيدة المجتمع.. وأن المناخ المحيط يحدد طبيعة التناول.. وأن الرسالة حتي تصل لا بد لها من شكل محدد في الصياغة.. ومن ثم قررت ألا أطبع هذا الكتاب ثانية.. دون أن أنكره.. ودون أن يتصل بي أي مسئول.. فالمعركة كانت مع التطرف.. ولم تزل. علي الجانب الآخر كان سعد زغلول يلقي إساءات متتالية في جريدة «الدستور».. وكان يلحق به أحمد عرابي.. وكان المنهج الذي اتبعه عيسي في صحيفته هو أن يفجر تساؤلات مثيرة وحادة.. ولو أدي هذا إلي التشكيك في كل قيمة.. بخلاف إثارة سياسية (علي خفيف) كانت تقترن غالباً بأسماء وعناوين لها علاقة بالكبار.. المهم أن يكون العنوان فيه (كبار).. وفي بعض الأحيان كانت الجريدة تتعثر في المرور من الرقابة.. وفي كل الأحيان كانت تجهز قبل وقتها بفترة غير قصيرة لأنها تطبع خارج مصر.. ومن ثم أعفت نفسها من المهمة الأولي لأي صحيفة: الأخبار. ولما أن وصلها ما يشبه الخبر.. أو ما اعتقدت أنه خبر.. كان أن نشرته دون تحقق.. لأنها أصلاً لم تتدرب علي اكتشاف ما هو خبر وما هو شائعة.. ولأن رئيس تحريرها بكل دقة لم تكن له أي علاقات بمصادر الأخبار.. وكان هذا الذي تصورته خبراً عبارة عن بيان أرسل عبر الفاكس يقول من كتبوه إنهم سوف يقتلون مليونيرات الأقباط.. ونشرت الدستور القصة.. وتخيل المليونيرات أنهم مستهدفون.. بينما كان عادل حمودة في شارع قصر العيني يريد أن يستفيد من الصخب الذي حققته الدستور.. وبغض النظر عن تأثيراته. ونكمل غداً الموقع الالكتروني : www.abkamal.net البريد الالكتروني : [email protected]