أعتبر نفسي محظوظا لأنني عشت يوم 6 أكتوبر 1973 وعايشته بكل ما حمله من معاني القيمة الوطنية لإنسان مصري رأي قطعة عزيزة من الوطن تسقط فريسة احتلال مهين وأنتظر مع الملايين من أبنائه يوم التحرير بفارغ الصبر. لم يكن يخالجني شك في أن يوم التحرير قادم لا محالة ، لكن الأيام منذ حلت بنا الهزيمة في حرب يونيو 1967 كانت تمر بطيئة للغاية بينما نتابع الجدية غير المسبوقة في اعادة بناء القوات المسلحة المصرية وامدادها بالعتاد ، وتدريب أفرادها تدريبا علي أسس علمية عسكرية صحيحة. كان تأتي الينا باستمرار الأخبار من زملائنا الجامعيين الذين كان لهم شرف الانضمام الي الجيش في نسخته المجددة، وشاءت الأقدار أن يمضوا نحو ست سنوات متصلة ملتصقين بمراكز التدريب تارة وعلي أرض الجبهة تارة أخري ، حتي حانت ساعة الخلاص أو النصر المستحق لهم لجهودهم وخدمتهم الشاقة لاسترداد أرض الوطن من يد الاحتلال المهين. حين تحل بنا الذكري السنوية لحرب أكتوبر 73 التي حقق فيها الجيش المصري نصرا واضحا لا لبس فيه علي جيش اسرائيل التي تباهت بأنه لا يقهر، تحقق النصر بأسلحة تقليدية دفاعية في معركة هجومية اكتسحت تحصينات العدو في خط بارليف الذي قدر العدو والمراقبون العسكريون بأنه لا يكفي لازاحته أقل من سلاح نووي صغير علي أقل تقدير. الأيدي العارية لأبناء مصر البواسل أطاحت بالخط الجهنمي علي شاطيء القناة دون سلاح نووي أو اي سلاح آخر من أسلحة الدمار الشامل، وردت الجيش الذي لا يقهر واستردت بالقوة الأرض التي اغتصبت بالقوة، علي أن الأثر السياسي للهزيمة العسكرية التي لحقت باسرائيل للمرة الأولي في تاريخها القصير في المنطقة ، كان الأكبر والأهم حيث لا تزال أصداؤه تتردد حتي الآن، وستظل كذلك طالما بقيت روح أكتوبر العظيم تسكن في وجدان المصريين، وطالما بقينا في بلادنا نحترم أرواح الشهداء التي بذلت نفسها لتحرير الوطن وغسلت بدمائها عار الهزيمة. لأسباب عديدة حرص البعض من الذين يريدون تحجيم دور مصر والمصريين في تقرير مصير منطقة الشرق الأوسط علي محاولة اغتيال حرب أكتوبر، والتقليل من أهميتها، ودفع المصريين الي نسيان أو تجاهل هذا اليوم العظيم الذي يغذي الوجدان الوطني بروح التغلب علي الصعب مهما كانت صعوبته، ومن الغريب أن يركز البعض منا علي ما اعتبروه أخطاء مهنية أو سياسية صاحبت المعارك التي امتدت الي نحو عشرين يوما. نفهم لماذا تعاني اسرائيل من وطأة حرب أكتوبر ، وتحاول أن تجد المبرر لما لحقها من هزيمة شرخت المجتمع الاسرائيلي وهزت علاقته بحلفائه الي الأبد مهما قيل عن قوة التحالفات بين اسرائيل والولايات المتحدة أو غيرها، بعد حرب أكتوبر انخفضت درجة اسرائيل من شريك لحلفائها الي تابع يبحث عن الدعم ويطالب بالضمانات، وهناك فرق كبير. ربما نفهم سر سخط اسرائيل وحقدها علي أبطال حرب أكتوبر والقيادة السياسية التي أدارت العملية عسكريا وسياسيا، لكن الغريب حقا هو مايحاوله بعض المحللين من مصر ودول عربية أخري من التقليل من قيمة وآثار الانتصار العسكري لمصر في تلك الحرب التي جري توثيق جميع التفاصيل الخاصة بها من جميع الأطراف وكلها بقراءة مقارنة تؤكد الحقيقة الساطعة بأن مصر حققت انتصارا مبهرا له آثاره السياسية، العدو قبل الصديق اعترف بالحقيقة فيما عدا المكابرين ومعظمهم أعماهم حقد شخصي علي الرئيس السادات الذي تصدي لإدارة عملية التحرير بمعاونة مجموعة ممتازة اختارها بعناية من مساعديه العسكريين والسياسيين، ليكتب سطور ملحمة وطنية ستبقي الي الأبد رمزا خالدا من رموز الوطنية المصرية ولو كره الحاقدون. لقد انتصرت مصر علي إسرائيل بالرغم من كل المزاعم التي يرددها الحاقدون، وأرغمها الجيش المصري "التقليدي" علي أن تطلب النجدة . ولم تكن محاصرة الجيش الثالث من قبل قوات شارون التي يتشدق بها الحاقدون الا تعقيدا في مسار الحرب لأن قوات شارون نفسها كانت محاصرة من القوات المصرية. و لم يفقد الرئيس السادات أعصابه خلال أي مرحلة من الحرب بل كان حريصا علي أن يسيطر علي مسارها في حدود أنها حرب لتحريك الموقف والتوصل الي آثارها السياسية حفاظا علي جيشه من أن تلتهمه القوي العظمي وتعيده الي نقطة الصفر من جديد. إن حرب أكتوبر عن حق ملحمة صنعها ويمتلكها الشعب المصري كله، هو الذي جعلها ممكنة ، هو الذي دفع ثمنها ، وهو الذي انتصر فيها.