لقد بينا في المقالين السابقين أن آدم من المحال أن يكون خليفة لله في الأرض، وبما أن آدم ليس خليفة لله فهو خليفة لأحد غير الله، وكون آدم خليفة في الأرض فحتما هو خليفة لأحد كان له مقام حقيقي في الأرض، وهذا يعني من دون شك ولا ريب أن آدم ليس هو المخلوق الأول من الطين وإنما هو خليفة لمخلوق كان قبله من نفس جنسه خلقه الله من طين ثم اصطفي الله آدم من نسل ذلك المخلوق ثم قام بتسويته وتطويره ونفخ فيه من الروح فجعله آدم الذي جاء منه نسل الإنسان. وقبل استرسالي في هذا الأمر أحب أن أنبه القارئ بأن حديثي في هذا الأمر ليس حديثا علميا، فلن أستشهد بنظريات علم الأحياء ولا بنظرية التطور ل(دارون)، ولا بعلم الأحافير ولا بعلم الآثار ولا بغيرها من العلوم ذات الصلة، فلست خبيرا في هذه العلوم ولا مطلعاً فيها ولا صاحب تخصص، فما أنا سوي قارئ وحسب لهذه العلوم، أما علمي الوحيد الذي يحملني علي الحديث في هذا الأمر هو علم قرء آيات الكتاب الكريم، ومن هنا أحاول جاهدا أن أقرأ ما جاء في الكتاب الحكيم من آيات تحدثت عن خلق آدم واستخلافه في الأرض. لذلك فلن يكون حديثي في هذا الأمر إلا قرء لآيات الكتاب الحكيم وحسب، وعلي كل حال هو جهد بشري مني قد يصيب وقد يخطئ، وأطلب من كل عالم بالعلوم التي ذكرتها آنفا أن يبلو ما جاء في حديثي عن قرء خلق آدم واستخلافه في الأرض من آيات الكتاب ويعرضه علي تلك العلوم فينظر مدي الاتفاق أو مدي الاختلاف مع تلك العلوم، وله شكري وعرفاني من قام بذلك. وأقدم للقارئ براهيني التي استقرأتها من آيات الكتاب حول خلق آدم وأنه ليس خليفة لله في الأرض، وليس هو أول من خُلِقَ من طين، وإنما هو من سلالة خلقت قبله من الطين وهو انحدر منها. قال تعالي: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (30_ البقرة). إن كلمة (جاعل) من البراهين الهامة علي أن آدم كان مقيما في الأرض مع بني جنسه من قبل جعله إنسانا مثلنا ذا أطوار، فكلمة (جاعل) من الفعل جعل والفعل جعل يختلف في دلالته عن الأفعال: (صنع، خلق، أوجد، أحدث، فطر)، والفعل جعل يدل علي تحويل شيء من حال سابقة إلي حال جديدة من دون استبدال الشيء ذاته، والفعل جعل لا يدل إطلاقا علي الإيجاد من لا شيء، أي لا يدل علي الإيجاد من العدم، بل يدل علي إحداث تغيير في شيء ما مع الحفاظ علي ذات الشيء، ومثلا علي هذا قول الحق عن الأرض: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً). (البقرة:22) فالأرض هي الأرض وجعلها فراشا لا يؤثر في ذاتها وحقيقتها وكونها أرضا، إنما جعلها فراشا لمن أراد أن يفترشها أو يتخذ منها فراشا. ومنه قول الحق: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (نوح:16) وجعل القمر نورا لا يؤثر علي ذات القمر وأصله أنه كوكب، ولو قمت بتحري آيات الكتاب التي ضمت الفعل (جعل) لوجدت أن الجعل لا يعني خلق شيء جديد مستقل بذاته، وإنما هو إحداث تغيير ما في شيء موجود من قبل، قال تعالي: (جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً) (النحل:81) وقال: (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً) (الزخرف:10). وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً) (الزخرف:3). وقال: (إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (70_ القصص). إذن فكلمة (جاعل) في لسان قوم الرسول لا تعني خالق ولا تعني صانع ولا تعني موجد ولا تعني محدث ولا تعني فاطر، وإنما تعني بعض التغييرات في شيء موجود ومخلوق وقائم بالفعل ولا تعني خلق مخلوق جديد ليس له أصل من قبل، هذه الدلالة للكلمة هي الدلالة الحق في لسان قوم الرسول الذي نزل به القرآن، وهي الدلالة الحق لكل الآيات التي وردت في القرآن تحمل هذه الكلمة (جعل جاعل). فالجعل هو تغيير يحدث في الشيء عما كان عليه لا يذهب بأصل الشيء وحقيقته، فحينما يقول الحق عن آدم: (إني جاعل في الأرض خليفة) يعني أنه سيقوم ببعض التغيير لفرد من مخلوق وموجود وقائم بالفعل ليجعل منه خليفة، فإيراده لكلمة (جاعل) من دون الكلمات (خالق، صانع، فاطر، موجد، محدث) يدل من دون شك ولا ريب علي أن آدم كان مخلوقا موجودا قائما بالفعل قبل جعله خليفة في الأرض، أما كيفية هذا الوجود وكنهه فهو من اختصاص العلماء الذين يسيرون في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق كما أمر الله، والعجيب أن القرآن هو الكتاب الديني الوحيد في تاريخ البشرية الذي أمر الناس بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق، قال تعالي: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ ينشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) (20_ العنكبوت). للحديث بقية