كنت نائماً ذات ليلة، والحسن إلي جانبي نائم، إذ أتاني آتٍ في منامي، فقال الهاتف: "أتدري من هذا النائم إلي جانبك، قلت: لا، قال: هذا أشعر منك وأشعر من الجن والإنس، أما والله لأفتنن بشعره الثقلين، أي الجن والإنس، ولأغرينّ به أهل المشرق والمغرب، فعلمت أنه إبليس، فقلت له: فما عندك، قال: عصيت ربي في سجدة فأهلكني، ولو أمرني أن أسجد لهذا ألف سجدة لسجدت، صاحب الحلم وراويه هو والبة بن الحباب الشاعر، أول أساتذة أبي نواس، علمه بواكير الأشياء، فيما خلف الأحمر علمه أصولها، ولد الحسن في قرية بالأهواز اسمها باب النار، أيام خلافة أبي جعفر المنصور، أمه فارسية الأصل تدعي جلبان، أي غصن الورد، فقيرة، كانت تنسج الجوارب والأخراج، لها في بعض الروايات ثلاثة أولاد وفتاة، أوسطهم هو الحسن، مع خصوبتها تكسبت بإرضاع أولاد الآخرين، ولما ضاقت حالتها بعد وفاة هانئ زوجها، استقبلت الغواني والرجال وجمعت بينهم لريبة، ولما تزوجت ثانية، سلّمت ابنها الحسن لعطّار يعلمه العطارة، وأهملته تماماً، فانقطع ما بينهما، كان أبان اللاحقي يهجو أبا نواس ويقول، أبو نواس بن هاني، وأمه جلبان، والناس أفطن شيء، إلي دقيق المعاني، إن زدت حرفاً علي ذا، يا صاح فاقطع لساني، الحروف الزائدة المحذوفة سكنت في قلب أبي نواس، فلم يوقِّر أمه، وبعدها لم يوقر شيئا أو أحدا، أبوه من سلالة موالٍ، هو هانئ بن عبد الأول بن الصباح، راعي ماعز ترك ماعزه والتحق بجيش مروان بن محمد آخر خلفاء أمية، وبعد هزيمة الأمويين وزوال دولتهم، عمل هانئ حائك ثياب، وأبو نواس هو الحسن بن هانئ، كنيته الأولي الحسن أبو علي، لولا أن خلف الأحمر نصحه بأن يختار كنية يمنية، وذو نواس من ملوك اليمن، لذا اختار الحسن أن تكون كنيته أبا نواس، كان فاتنا، لا طول ولا قصر، ألثغ الراء يجعلها غينا، صاحب بحة تلازم صوته ولا تفارقه، الرواة يروون، أنه كان فحلا راوية عالماً، أقل ما فيه قول الشعر، في صباي كان أبي يحكي حكاياته الشعبية عن الحسن والحسين وفاطمة وزينب والإمام علي والسيد البدوي وفاطمة بنت بري وهارون الرشيدي وأبي النواس، بتشديد واو النواس، وكان العقاد يقول: أعرف الجاهل من نطقه الأسماء، فهو يقول أبو نواس ويشدد الواو، ويقول مرسي دون ألف لام التعريف ودون تشديد للياء، وفي رجولتي سمعت أدونيس سواء في جلساته الخاصة أو ندواته العامة، سمعته يقرأ الشعر، ويقول أبو النوّاس بتشديد الياء، بالضبط مثل أبي، أدونيس اعتمد ألسنة العامة ليدلل علي شيوع الاسم، وأبي نقل الاسم عن السير الشعبية التي ظهر فيها الخليفة هارون الرشيد وحاشيته الوزير جعفر والسياف مسرور، ومضحكه أبو نواس، هكذا في ألف ليلة وليلة، وهكذا في تصانيف أخري مثل أعلام الناس، فيما وقع للبرامكة مع بني العباس، منذ أقل من عشر سنوات شرعت في اختيار بعض شعر أبي نواس الذي ظننته دائما سبب ما يشبه مصادرة السلطات له، السلطات كلها تعلمت أن تؤلف سببا غير السبب الأصلي، ليتناسب مع القبول العام، فيصبح المجون ومراودة الغلمان والحث علي الشراب والسكر، غطاء محبوكا يخفي موقف أبي نواس من الدين والتاريخ والجنس العربي والتراث، وكل ما هو ممدوح عند العرب، أبو نواس لم يترك عادة أو تقليدا أو أصلاً قبليا أو سلوكا أو بيئة أو طبيعة دون ذم، لم يترك عقيدة أو نحلة أو طوطماً مقدساً دون تعريض، لم أكمل الاختيار وإن ظل أبو نواس يراودني، مرة كعاشق تذكرني به فيروز إذا غنت: حامل الهوي تعب، يستخفه الطرب، إن بكي يحق له، ليس ما به لعب، ومرة كرجل تائب مأخوذ بالحضور الإلهي، إذا أناب عنه محمد فوزي، لينشدا معا، إلهنا ما أعدلك، مليك كل من ملك، حامل الهوي تكاد تكون قصيدة أبي نواس الأولي في محبوبته جنان، التي ربما هي وجلبان أمه تكونان المسئولتين عن هروبه من المرأة، وإلهنا ما أعدلك كتبها أبو نواس بسبب أن عمّارة بنت عبد الوهاب الثقفي مولاة جنان، أي سيدتها، عزمت علي الحج وعلي اصطحاب جنان معها، وأبو نواس العاشق أيامذاك ذهب إلي الحج وشوهد وقد أحرم، وغلبه الإيمان، فأخذ يحدو بالشعر، إلهنا ما أعدلك، وفي أثناء الطواف، رآه بعض أصحابه يسعي خلف امرأة، ولا يفلتها، ولما وصلا إلي الحجر الأسود، لثمت المرأة الحجر، ومعها لثمه أبو نواس، وقارب خده خدها، والتصقا تقريبا، وعرف الأصحاب أنها جنان، ولما لاموه، أنشد قصيدته: وعاشقين التف خداهما، عند التئام الحجر الأسودِ، نفعل في المسجد ما لم يكن، يفعله الأبرار في المسجدِ، ولما عاد من حجه، قال: حججت وقلت قد حجت جنان، فيجمعني وإياها المسير، الغريب أن كتّاب عصر الإحياء، طه حسين والعقاد والمازني وزكي مبارك ومارون عبود إلخ، انشغلوا بالمتنبي وابن الرومي وأبي العلاء والشريف الرضي، وربما بشار، وانصرفوا تقريبا عن أبي نواس، العقاد كتب عنه كتابا في علم النفس، ومثله فعل محمد النويهي، وبعدهما كتب عبد الرحمن صدقي كتابين: الحان الحان ،(بدون همزة)، وأبو نواس قصة حياة، وربما قرنه في ذهنه ببودلير، لصدقي كتاب عن بودلير، أدونيس في مقدمة الشعر العربي قال عنه رامبو العرب، إبراهيم الإبياري عندما شرع في تحقيق كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني طبعة دار الشعب، استغرب غياب أبي نواس شبه الكامل، هل أبو الفرج هو من أهمله، أم رقابة النسّاخ علي مر التاريخ ، لذا رأي أن الأولي به أن يضيف إلي طبعته ما يسد الخرق، فأضاف ما كتبه ابن منظور المصري عن أبي نواس البصري، ونحن نعلم أن أبا نواس زار مصر، ومدح فيها الخصيب أمير الخراج، ولما زارها بعده الشاعر ديك الجن الحمصي قال: دخلت مصر بعد أبي نواس، فوجدت له بها أشعارا ليست عند أهل العراق، لذا كانت فطنة الإبياري لازمة، رحلة أبي نواس إلي مصر، لا تقل أهمية عن رحلة المتنبي، ولكن مقتل المتنبي في خاتمة رحلته زادها ثقلا، بالإضافة إلي أن شعراء زماننا كانوا أميل إلي التماهي مع المتنبي، وإلي تشبيه ممدوحيهم ناصر وعرفات بسيف الدولة الحمداني، ضعف الطالب وعظم المطلوب، إلا أنه هكذا صار المتنبي هو المثال لكل شاعر يريد أن يكون لسان جماعته، هو المثال للشاعر العام، شعر المتنبي شعر يجري علي اللسان، شعر بداهة، تتبناه وتتمناه دون أن يسيء أحد فهمك،شعر سليقة موروثة، والعرق دساس، وشعر أبي نواس شعر أعماق فائرة، أعماق تتأجج ،شعر يعض عليه اللسان، شعر غرف مغلقة، ومحرمة، ذوات مفاتيح ضائعة، يعنينا منه إرادة الإنشاء لا إرادة التعبير، يعنينا انصرافه عن السياسة و الرئاسة ،إلي المقموع و الممنوع،أشواقه تسيل من أعماقه ، و أعماقه تعلو علي آفاقه، غشيان أبي نواس للمجالس درّبه علي الارتجال، والارتجال درّبه علي ميسور اللغة، وميسورها درّبه علي الإتيان بالمفردة المحشودة بشتي المعاني، المفردة الواحدة لا شريك لها، لا أكاد أصدق أن الحسن بن هانئ بلغ الشيخوخة ذات مرة، أو أنه مات وهو علي مشارف الستين، أو أنه مرض بشلل عصبي، أو آلام كبد، هذا اللامنتمي لشيء خارجه، لا يمكن أن نراه إلا ماجنا طوال الوقت، خارجا علي المألوف ، شابا ، متمردا طوال الوقت، يشاء أن يشبه الزنادقة، وأن يحشر بينهم، مع أنه ليس بزنديق ولكنه، أراد أن يوسم بالظرف، لما كان شهر رمضان يهل علي أبي نواس، كان يستعيذ منه، ويقول: أستعذ من رمضانِ، بسلافات الدنانِ، واطوِ شوالا علي القصف وتغريد القيان، وليكن في كل يوم، لك فيه سكرتان، أوفق الأشهر لي، أبعدها من رمضان، ثم كان يهجو رمضان ويقول: ألا يا شهر كم تبقي، مرضنا ومللناكا، ولو أمكن أن يقتل، شهر لقتلناكا، ثم كان يتفزز ويشمت به عندما يوشك علي الانتهاء : وإني بشهر الصوم إذ بان شامت، وإنك يا شوال لي لصديق، فقد عاودت نفسي الصبابة والهوي، وحان صبوح باكر وغبوقُ، وأبو نواس علي الرغم من كل هذا البطش والسخرية، سنكتشف أنه عند البعض مسكون بمناوأة الدين، كأنه مسكون به، يقول عن الخمر: عُتّقت في الدنّ حتي، هي في رقة ديني، ويقول عبد الرحمن صدقي، حقيقة الأمر لمن يتقصي أشعار أبي نواس وأخباره، أن باطن الرجل بخلاف ظاهره، فهو مؤمن مصدق بقلبه، وإذا تشكك، فشكه من النوع الذي قد يعرض للمؤمن فلا يخرجه إلي الإنكار، ومعظمه مألوف لدي ظرفاء كل عصر، وهذا رأي عبد الرحمن وليس رأينا، أبو نواس تاب عدة مرات، ثم عاد من توبته خائبا، تاب أحيانا مأمورا من الخليفة، ولكنه في آخر توبة، تاب مأمورا من جسده ونفسه وعلته، حياته كلها عاشها مثل طالب لذة، ومع خوفه من الموت، واقترابهما، أحدهما من الآخر، تحول إلي طالب عفو، لذة أبي نواس لا تكتمل إلا بالجهر بها، ومثلها توبته، لذته وتوبته تغلبهما نزعاته الحسية، كلتاهما إما دفقة قلب، و إما خفقة طين، كلتاهما خالصة صافية صفاء التصوير و الموسيقي، لذته عدم تحديد ، كذا توبته عدم، يصف امرأة ويقول: فوق القصيرة والطويلة فوقها، دون السمين ودونها المهزول، هو في لذته، هو هو في توبته ، وبيانه الشعري يدل عليه وعليناغير أني قائل ما أتاني من ظنوني،مكذب للعيان آخذ نفسي بتأليف شيء واحد في اللفظ، شتي المعاني قائم في الوهم، حتي إذا ما رمته رمت معمّي المكانِ فكأني تابع حسن شيء من أمامي ليس بالمستبانِِ.