من وادي كركر: رطبت الأجواء الراضية المتفجرة من إحساس عام بالقناعة والانبساط، أجواء الحرارة الشديدة التي لا أعرف كيف يتحملها أهلنا في أسوان صيفًا.. وكيف يعيشون فيها.. أعانهم الله عليها. لقد كانت درجة الحرارة تفوق الستين مئوية.. بحيث إذا صببت كوب ماء علي أي سطح أملس، لا يمتص شيئًا، فإن الماء يتبخر في دقيقتين.. وعلي الرغم من ذلك فإن بعضًا من أهلنا هناك جاملونا وقالوا إن الطقس قد اعتدل مع وصولكم.. دون أن ينسوا دعوتنا إلي زيارتهم في الشتاء فهو أفضل.. بينما الشوارع الآن خالية.. والقيظ يزهق.. والتنفس مخنوق.. والبشرة القاهرية تبدو مترفة مع خشونة طبيعة أسوان.. حتي إنك تسمع صوت طقطقة الجلد مما يعاني. زرت أسوان قبل عام تقريبًا.. وقتها كان المناخ صعبًا.. طقسًا ومضمونًا.. كنا نتابع جولة مهمة لأمين السياسات جمال مبارك في مركز «نصر النوبة»، حيث عقد لقاء جماهيريا صريحًا مع عدد كبير من أصوات أهلنا في النوبة.. استمع بإنصات وناقش بعمق.. واستجاب بأريحية.. وقتها كان صوت الشكوي لا يمكن إنكاره.. شكوي لم تتخل عن اللياقة.. وامتلأت بتقدير أن رجلاً بقيمة أمين السياسات وأهميته يتابع الأمر بنفسه.. وهو لم يزل يفعل.. ويعتقد النوبيون وكل أهل أسوان أنه سوف يزورهم مجددًا في رمضان لمتابعة التعهدات الحكومية بشأن متطلبات النوبيين في العام الذي اكتمل حوله بوصول رمضان الجديد. في يوم الاثنين، سافرت في رفقة وزير الإسكان أحمد المغربي، ولكن هذه المرة إلي «وادي كركر»، علي بعد 20 كيلو مترًا من أسوان، وثلاثة كيلو مترات من شاطئ بحيرة ناصر، حيث تتراص بحيوية وإيقاع سريع ملامح اكتمال بناء ثماني قري سوف يستفيد منها ما لا يقل عن 14 ألف نوبي.. (التخطيط يتسع ل 30 ألفًا).. قري تتوزع عمليات بنائها بالمناصفة ما بين وزارة الإسكان وجهاز مشروعات القوات المسلحة. إن المغربي يحظي هنا بشعبية كبيرة في ضوء أنه بني جسورًا وتواصل مع النوبيين خلال تنفيذه للتكليف الرئاسي ببناء القري الأربع، وقد سمعت إطراءات عديدة فيه، وبدوره يتمتع المحافظ مصطفي السيد بمكانة مميزة بين الناس، إلي درجة دعتهم لأن يطالبوا بمزيد من بقائه بينهم كما لو أن هناك تغييرًا قريبًا ويتوقعون أن يتركهم خلاله.. وهو أمر لا تبدو ملامحه أمامي. الإسكان بذلت جهدًا منوعًا في أسوان، في مجالات مختلفة، علي مستوي مشروعات تنقية المياه والصرف الصحي والتخطيط العمراني وقري الظهير الصحراوي، وبرامج الإسكان الاجتماعي، لكن الجهد الذي لابد أنه ستكون له مكانة تاريخية هو ذلك الذي يتجسد الآن في وادي كركر، حيث اختيرت قطعة أرض بنيت عليها القري.. التي بدأ تشييدها في مارس وقد تنتهي في ديسمبر.. حيث يتميز العمل بإيقاع سريع وتمويل متوافر وتخطيط راقٍ.. وبشركات ومقاولين اشترط عليهم أن يوظفوا أهالي النوبة وليس غيرهم في العمل.. ولعل هذا هو أحد أسباب سرعة الإيقاع. اللغة تغيرت.. القناعة تزيد.. الرضا يرتفع مؤشره.. الغضب يذوب.. والآن يقول أهلنا في النوبة إنهم يدركون أن تأخير تلبية احتياجاتهم التنموية إنما كان بسبب أولويات أخري وقعت أيام الحرب.. وأولويات غيرها في وقت السلام.. وقال بعضهم محييا الرئيس: لقد حل مبارك مشكلة الخمسين سنة في خمسين يومًا.. لعلهم يقصدون للدقة خمسين أسبوعًا.. استغرقتها عمليات التنفيذ.. أو لعلهم يعنون بالخمسين يومًا الفترة الزمنية التي وجدت فيها القرارات طريقها إلي التمويل والتجسيد علي أرض الواقع. أفضل ما في العمل الذي يتم أنه يقع في أرض اختارها النوبيون بأنفسهم.. الصحيح أنها أرض تتميز بالوعورة (رغم أن اسمه وادي كركر.. لكن الاسم ليس علي مسمي.. أقصد كلمة وادي وليس كلمة كركر.. إذ إنه بمجرد أن تدب إليه آلة حفر في قشرة التربة حتي تجد صخورًا جرانيتية تستغرق وقتًا وجهدًا رهيبًا في التعامل معها).. وما يميز المشروع أنه يتسق مع بيئة النوبة معماريا وتصميمًا.. المنازل فيها قباب ومساحات غير مسقوفة.. بخلاف اتساعها.. إذ إن مساحة كل بيت تمتد إلي 220 مترًا مربعًا.. وهو أمر مناسب جدا لأسرة نوبية قضت وقتًا طويلاً في انتظار أن تستقر في موطنها المرتبطة به. لكن السؤال هو: هل سوف يسكن النوبيون في هذه القري بعد أن يتسلموها؟ أم أنهم سوف يحصلون عليها ويبيعونها؟ الإجابة غدًا. الموقع الالكتروني : www.abkamal.net البريد الالكتروني : [email protected]