في صباح يوم ماطر من أغنية امرأة طبيعية لكارول كينج الجالسة حافية القدمين مع قطة ربيلة بجوار نافذة علي ظهر cd، تخيلتُ أن تأكيداً من نوع الجبل عال والنهر عميق عند ملوك البلوز، بيلي هوليداي، إريتا فرانكلين، نينا سايمون، ليس تأكيداً، بل قسماً بالجبال العالية والأنهار العميقة، أو بينما تكون بيلي هوليداي في قصة حب، يكون الجبل عالياً والنهر عميقاً، أو تشهد الجبال العالية والأنهار العميقة علي قصة حب لإريتا فرانكلين. بينما يكون الجبل عالياً والنهر عميقاً، يحدث كذا وكذا، وبينما تكون الروح في الظلام يصرخ راي تشارلز علي إريتا فرانكلين كي تشعر بها، وتري إيلا فيتزجيرالد بزواية منحرفة ضوء المطر اللامع بفعل الشمس المكتومة في جزء كبير منها تحت سُحبٍ قاتمة، وتؤكد نينا سايمون بصوت جنائزي حزين بعد نفي يطال حياتها وحياة مَنْ تحبه، بأنها تشعر الآن بتحسن كبير. الارتفاع القانوني الدولي المُعترف به والمسجل في حوليات الدول، لكي يكون الجبل جبلاً، يجب ألا يقل ارتفاعه عن كذا، وإلا أصبح تلَّة. العار يلحق بلداً لا تملك سوي التلال. مسَّاحون وخرائطيون دوليون يجوبون كوكب الأرض، يحققون ويؤكدون أن الجبال ما زالت جبالاً، وأن التلال ما زالت ترفل في عارها الشخصي، بإعجاب يؤكدون أن الجبال جبال، وبشفقة يؤكدون أن التلال تلال. في استعارة بارعة لفيلم إنجليزي يضع صاحب البار، وهو واحد من أبطال بلد التلال يديه من الخلف علي صدر خادمة البار المعنية بتضليل المسَّاح وتأجيل قياسه الدقيق، لحين التصرُّف في عار التلَّة، ويقول لها عن أهمية أن تملك بلده جبلاً، وهو يهز تلتي صدرها: الجبال هي الملابس الداخلية التي تقام عليها أناقة الدول. البلد كلها، برجالها ونسائها وأطفالها تنفض عن نفسها عار التلال. التراب بقيمة الذهب، يصعدون به إلي أنف التلَّة، ويحسبون الأمتار القليلة التي تصل بهم فجأةً إلي أنف الجبل، بقدرة قادر يصعدون إلي تلَّة، وينزلون من جبلٍ. وقفتُ في الساعة الثالثة صباحاً علي أنف جبل مرصد حلوان بعد أن عاينت في تليسكوبه البالغ قطر عدسته الأساسية ثلاثة أمتار ونصف المتر، وهو ما يجعله أكبر أربع مرات من تليسكوبات الفضاء السابقة التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وأكبر مرة ونصف المرة من تليسكوب الفضاء هابل، مجرة أندروميدا، وهي أقرب المجرات إلينا، وتبعد أكثر من ملياري سنة ضوئية، العدد في الليمون، ومع هذا هو عدد حقيقي، وهي مرشَّحة لصدام كارثي كبير مع مجرتنا درب التبانة، وكي لا يكون اللقاء غريباً في المستقبل البعيد عاينتُ بالعين المجردة هذه المرة، وجهاً بلا ملامح، وجهاً صغيراً بعمر زهرة، هَرِمَاً بعمر النجوم. نزلتُ من أنف جبل مرصد حلوان. كان الطريق إلي بيتي مقطوعاً، ومنحدراً إلي أسفل. توقفتُ عند نصبة الشاي الصغيرة المبعبكة التي تشبه شامة بارزة مُعلَّقة علي رقبة الطريق المنحدر، والتي لم يصلها قانون إزالة من خبراء تجميل الطرق المُكرَّشين علي مكاتبهم في المجلس المحلي. علي قوالح الذرة الجافة رديئة الاشتعال، وفي كوز علبة السلمون المبروم علي حافته بفكَّي زرَّادية، السلك النحاسي الغليظ المُستخدم في كابلات الفولت العالي، شربتُ شاياً ثقيلاً في كوب صغير من الزجاج الأخضر الرخيص، وكان الكوب بهفوة هواء محبوسة في مادته، فقَّاعة هواء مخنوقة قرب حافته إلي الأبد. تذكَّرتُ هفوة أخري، لكنها ليستْ من هواء، ولا أتذكَّر اسمها الآن، هل كانت صديقة لوالدتي، جارة في الدور العلوي، أم ممرضة في مستشفي حلوان العام. كنتُ صغيراً، وكانت حبسة الدم في مادة عينها البيضاء علي حدود النني الأخضر المتراقص يميناً ويساراً ما زالت تؤرق مُخيلتي، وفي كل مرة كنتُ أراها أتوهَّم أن النني غير المستقر سيبتلع في حركته الطائشة، حبسة الشعيرات الدموية الرقيقة الواقفة علي حدود محيطه، وبعد أن يستقر النني تبدو حبسة الدم الحمراء المخنوقة واضحة قاسية في المادة البيضاء. في حلم مزعج حاولتُ تخليص المرأة من حبسة الدم، حاولتُ فصلها عن التهديد المستمر للنني الأخضر، وكلما حاولتُ أكثر زاغت المقلة بين توسلاتها بأن لا فائدة من المُحَاوَلَة، وفي ذروة الحلم تنفجر المقلة بين أصابعي.