الفيلم الذي نافس "كباريه" علي جائزة الأوسكار لعام 1973 كان عنها، أشهر مغنيات الجاز في أمريكا في الأربعينيات. عنوان الفيلم مأخوذ عن قصة حياة بيلي هوليداي "سيدة تغني البلوز" ويشير لعنوان أغنية كتبتها هوليداي وغنتها في عام 1956، ثلاثة أعوام قبل وفاتها. ديانا روس قامت بدور بيلي هوليداي بحساسية وطزاجة تحسدها عليها كثير من الممثلات المحترفات، وكادت أن تحصل علي أوسكار أحسن ممثلة في ذلك العام لولا فيلم "كباريه"الذي حصد ثماني من جوائز المسابقة من بينها جائزة أحسن مخرج "بوب فوس" وأحسن ممثلة "ليزا مينيللي". مصادفة - أو قدر أعمي - أن يخرج في نفس العام فيلمان موسيقيان آخران بجودة "كباريه"، هما فيلم "سيدة تغني البلوز" إخراج الكندي سيدني فيوري و"المسيح سوبرستار" إخراج نورمان جويسون. الأكاديمية اختارت بجدارة فيلم "كباريه"، ربما لأن فيلما موسيقيا جريئا عن الأيام الأخيرة في حياة المسيح لم يكن ليعجب الجماهير العريضة من العاملين في المهنة الذين يقومون بالتصويت لاختيار أفضل أفلام العام. وربما توقع الكثيرون أن يحصل فيلم عن حياة بيلي هوليداي علي إحدي الجوائز الخمس التي رشح لها، وخاب توقعهم رغم مراعاة التفاصيل التاريخية الدقيقة وجودة الإخراج والتمثيل والمونتاج والموسيقي. الفيلمان صمدا رغم ذلك في وجه الزمن، فبعد 27 عاماً علي إنتاجهما مازالا من أفضل أفلام هوليوود الموسيقية في السبعينيات، مع أفلام مثل "هير" لميلوش فورمان (1979) و"كل هذا الجاز" لبوب فوس (1980). يتعرض الفيلم لأهم المحطات في حياة بيلي هوليداي ويبرر بتعاطف شديد ادمانها للخمر والمخدرات ووفاتها في سن الرابعة والأربعين بسبب تليف في الكبد. مشهد اغتصابها وهي في الرابعة عشرة من عمرها، ثم مشهد دخولها السجن لأول مرة بتهمة حيازة مخدرات ومشاهد أخري مثل مقتل صديقها عازف البيانو أمام عينيها علي يد تاجر مخدرات، من أكثر المشاهد عنفا في الفيلم. هذا العنف الذي قاومته البطلة بالحلم الوحيد الذي ظلت تغذيه حلم الغناء، وبشخصية تمتعت في الفيلم بمزيج من التمرد والبراءة وحسن النية وسوء الحظ. اختار الفيلم أن يتجنب الحديث عن عثرات بيلي هوليداي الغرامية الكثيرة والتركيز علي زواجها الأخير من أحد رجال المافيا كنموذج لكل الرجال الذين عرفتهم أو تزوجتهم وقاموا باستغلالها ماليا وعاطفيا. كما اختار المخرج أن ينهي القصة بصعودها علي أعظم مسارح نيويورك للغناء، كاعتراف بما تركته أغنياتها من تراث هائل في تاريخ موسيقي الجاز الأمريكية. غنت ديانا روس بصوتها أغنيات بيلي هوليداي وحصل الألبوم علي لقب "الألبوم رقم واحد في أمريكا" في أبريل، 1973 من بين أغنيات هوليداي الشهيرة التي نسمعها في الفيلم أغنية "صباح الخير أيها الحزن" التي تقول كلماتها: "صباح الخير أيها الحزن، كنت أظنك قد ودعتني أمس، أدرت لك ظهري وسعلت حتي ظننتك قد رحلت، ولكن ها أنت تعود مع الفجر، ليتني نسيتك، لكن يبدو أنك جئت لتبقي". وأيضا أغنية "سترينج فروت" أو "ثمرة غريبة" التي تدين عمليات الحرق والشنق التي كانت تتم بانتظام ضد المواطنين الأمريكيين السود، خاصة في جنوب أمريكا. تقول الأغنية التي غنتها هوليداي في نهاية الثلاثينيات وأصبحت فيما بعد علامة فارقة في تاريخ موسيقي البلوز: "أشجار الجنوب تحمل ثمرة غريبة...دم علي الأوراق، دم علي الجذور... أجساد سوداء تتأرجح مع نسائم الجنوب...ها هي ثمرة لتنقرها الغربان... لتتجمع عليها قطرات المطر ويمتصها الريح...لتتعفن في الشمس وتسقط من الأشجار... ها هو حصاد الثمار الغريبة المر." أداء هوليداي لهذه الكلمات يخطف الأنفاس، تغنيها عادة بمصاحبة البيانو والساكسفون، مثل أغنية "عديد" تثير سامعها ضد الظلم أكثر مما تثيره ضد الموت. يبدو وكأن صوتها بطبقاته الهامسة والعالية قد انقطع أو تحشرج أو انحبس رغم أنه واضح ومسموع بكل اختلاجاته. ثم تنتهي الأغنية بشبه صرخة من آلة الساكسفون فيما تمتد الكلمة الأخيرة كآهة عميقة ورخيمة. ديانا روس تغنيها في الفيلم بصوت مصاحب لصور صامتة، صوت عذب ودافئ مقارنة بصوت وأداء هوليداي الحاد، صوت رفعت عنه الخصوصية التي تميز الجاز والبلوز، مجرد صوت حزين تعوضه الصورة السينمائية وتزيد واقعيتها من تأثيره. أثناء جولة في جنوب أمريكا، تهبط هوليداي من الباص لتتجول في المراعي لكنها تفاجأ بمشهد رجل أسود مشنوق علي شجرة تحيط به عائلته وهي تبكي. تعود هوليداي ركضا إلي الباص ويتم تركيب الأغنية علي صورة وجهها الصامت وهي في الباص ثم تتقاطع هذه الصورة مع "كلوز أب" لها علي المسرح وهي تغني الأغنية بأداء يقطر حزناً. لقد اختار الفيلم التركيز علي صراع بيلي هوليداي ضد أشكال مختلفة من الدمار النفسي والبدني وأراد مخرجه أن يستعين بمغنية زنجية شهيرة وجميلة مثل ديانا روس بغض النظر عن ملاءمة صوتها لصوت بيلي هوليداي، لذلك غلب الطابع الدرامي علي معظم الأحداث وصادرت التفاصيل الواقعية علي حرية المخرج الفنية وأصبح عنصر الموسيقي أكثر عناصر الفيلم ضعفا بدلا من أن يكون أكثرها قوة، خاصة أن المقارنة بين هوليداي وروس لم تكن في مصلحة روس. علي عكس ما نري مثلا في فيلم "كباريه" حيث تحتل الموسيقي المكتوبة خصيصاً لبرودواي محل الصدارة وتؤديها ليزا مينيللي باتقان وخفة دم تحت إدارة مخرج ومصمم رقصات حريف هو بوب فوس، فضلا عن خروج الأحداث والعلاقات عن الأطر المألوفة في السينما الواقعية. "سيدة تغني البلوز" يظل رغم ذلك فيلما جميلا ومؤثرا، يعود بالميلودراما لجذورها المسرحية، حيث تمتزج الدراما بالموسيقي، وحيث يرتبط نجاح الدراما بمدي معاناة البطلة وخصوصية هذه المعاناة بعيدا عن الأحكام الأخلاقية. والأهم من ذلك أنه يعيد صياغة العلاقة بموسيقي الجاز من منظور جديد وكأن التمرد الذي تحمله جذور التجربة الموسيقية قد وصل إلي مرحلة أمان وهدوء تسمح لها بأن تتدفق مثل النهر الرائق. في جميع الأحوال، كما تقول كلمات الأغنية، "البلوز ما هو إلا وخزة في القلب"، ليس طعنة ثقيلة، بل مزيج باهر من الحزن والخفة.