المانع الرابع: إن من الموانع التي تمنع أن يكون المقصود بالجمع في آيات سورة القيامة القرآن الكريم كلمة (قرأناه) في قوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)، ومعظمنا يفهم أن كلمة قرأ تعني ترديد الكلمات باللسان وهذه هي مصيبتنا العظمي التي تكمن في الخلط بين مفاهيم ومعاني المفردات والمصطلحات، فنحن دائما ما نخلط بين معاني الكلمات والمصطلحات وبين معاني بعضها البعض وهذا ما يجعلنا نخطئ بشكل مستمر في النتائج والفهم في أي شيء نقوم بدراسته وهذه قضية خطيرة ربما نتحدث عنها بالتفصيل في مقالات أخري. لكن ما يهمنا الآن في موضوعنا هو أن نفرق بين دلالة ومفهوم كلمة (قرأ) ودلالة ومفهوم كلمة (تلا)، ولابد أن نعلم أن هناك فرق شاسعا بين مدلول كل كلمة منهما، فالقرء لا تعني التلاوة أي (ترديد الكلمات) سواء ترديد كلمات القرآن الكريم أو ترديد أي كلمات أخري غيره، فمحض ترديد كلمات القرآن أو غيره من الكلمات تعني التلاوة لا القرء ولا القراءة كما يجري علي ألسنة الناس خطأ، ذلك لأن القرء هو أمر وراء ذلك، فالقرء كما جاء معناه في أصل كلام العرب الذي نزل القرآن الكريم بلسانهم هو علامات تخرج من شيء غير متاح الولوج إليه لتُظْهِر وتُبِين حقيقة ما بداخله. ويدل علي ذلك خروج دم الحيض من رحم الأنثي، ففي خروج دم الحيض من رحم الأنثي قرء للرحم يظْهِر ويبِين خلو الرحم من الحمل، ويدل علي ذلك قول الحق سبحانه: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يحِلُّ لَهُنَّ أَن يكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (228_ البقرة)، والقرء يكون لشيء واحد، والقروء تكون لعدد من الأشياء، أما كلمة (قرآن) فهي تدل علي قرء كل شيء، لذلك أسمي الله كتابه بالقرآن لأنه قرآن لكل شيء، فالقرء المقصود في آيات سورة القيامة بهذا المفهوم هو ما تكفل الله به ليوم القيامة، فأخبر الله رسوله أنه هو من تكفل بالجمع ليوم القيامة وتكفل بقرآنه أي إخراج ما به من علامات تُظْهِر وتُبِين اقتراب ذلك اليوم، فإذا قرأه الله فعلي رسوله وعلي كل إنسان أن يتبع قرآنه، وقد ذكر القرآن الكريم بعض هذه العلامات، فعلي سبيل المثال لا الحصر قول الحق: (إِنَّمَا مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّي إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّينَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يتَفَكَّرُونَ) (24_ يونس). المانع الخامس: قول الحق: (ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيانَهُ)، فنلحظ هنا إيراد كلمة (ثم) التي تفيد التراخي في الزمن، وذلك يشير إلي أن القرء يكون بإخراج علامات ذلك اليوم وبعد إخراج تلك العلامات لقرء ذلك اليوم يتم بعدها بزمن بيان ذلك اليوم، وما يمنع في هذه الآية أن يكون المقصود بالبيان هو القرآن الكريم، هو توكيد وحصر وقصر البيان علي الله وحده وحسب، وحرف (إن) المذكور في الآية (إِنَّ عَلَينَا بَيانَهُ) يدل علي التوكيد والقصر والحصر علي الله وحده، وهذا يخالف حقيقة كون القرآن الكريم كتاباً مبيناً لكل من أراد تبينه ودراسته كما وصفه الله في كثير من آياته بأنه (كتاب مبين)، فهل يخطر ببال أحد أن يكون القرآن الكريم كتابا مبينا ثم يوكد الله ويحصر ويقصر بيانه عليه وحده سبحانه؟، وهل يخطر ببال أحد أن ينزل الله كتابا كالقرآن الكريم ثم يؤخر الله بيانه ويقصر ويحصر ذلك البيان عليه وحده؟، إذا فما فائدة إنزال كتاب غير مبين لا معني ولا بيان له وبيانه مؤخر لحين أن يقوم الله بنفسه ببيان معانيه ومقاصده؟، إذاً فالمقصود بالجمع والقرء والبيان في هذه الآيات هو يوم القيامة وليس القرآن الكريم لما سبق وأن أوضحنا من براهين. (للحديث بقية)