إن العدالة المطلقة التي يتصف بها الخالق سبحانه تعد من أكثر ما يبث الطمأنينة في نفس الإنسان، ومن أهم مظاهر تلك العدالة الإلهية أن الله ليس بينه وبين الآدميين نسب ولا صهر ولا قرابة ولا مصالح، ولم يتخذ منهم صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل، وما كان معه من إله غيره، هذه هي قمة العدالة الإلهية وروعتها، فتعالي الله عن ذلك لو كان له نوع من هذه الروابط بأي مجموعة بشرية لتصدعت تلك العدالة واتهمت بالانحياز والميل والمحاباة، لكنه تعالي عن ذلك علوا كبيراً قد أعلنها صريحة مدوية في كثير من آيات الكتاب الحكيم، فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يصِفُونَ(100) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّي يكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ(101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ وَكِيلٌ) (102_ الأنعام). لقد جعل الحق سبحانه معياره الوحيد في تقييم وتكريم الآدميين هو معيار التقوي، فقال: (يا أَيهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13_ الحجرات). أما الادعاء بأن مجرد انتساب فئة ما من الناس لدين بعينه أو لرسالة دينية بعينها يعطيها الكثير من الامتيازات الإلهية رغم خروجها علي تعاليم ذلك الدين الذي تنتسب إليه هو ادعاء باطل يكذبه القرآن الكريم ولا يقيم له وزنا، فحين ادعي أهل الكتاب أفضليتهم وأسبقيتهم بإنزال الكتاب عليهم (التوراة والإنجيل) وأن لهم السبق بالإيمان بالله ورسله وكتبه، أمر الله رسوله بأن يرد عليهم ادعاءهم هذا لأنهم لم يقيموا تعاليم التوراة والإنجيل في حياتهم ولم يلتزموا بما جاء فيهما من أحكام وتشريعات، فقال تعالي: (قل يا أهل الكتاب لستم علي شيء حتي تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) (68_ المائدة). بل إن الله أراد أن يقطع الطريق علي الجميع سواء أهل الكتاب أو أتباع النبي محمد عليه الصلاة والسلام في هذا الادعاء الزائف وتلك الامتيازات المزعومة التي يظن معظم الناس أن مجرد الانتماء أو الانتساب إلي دين ما أو رسالة ما سوف يكون للمنتمين والمنتسبين حظوة وامتيازات تشبه تلك التي يمنحها بعض أولي الأمر لأقربائهم وتابعيهم فقط لمجرد القرابة والتبعية حتي وإن كانوا لا يستحقونها، فقال تعالي: (لَيسَ بِأَمَانِيكُمْ وَلاَ أَمَانِي أَهْلِ الكِتَابِ مَن يعْمَلْ سُوءاً يجْزَ بِهِ وَلاَ يجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً) (123_ النساء). إذاً فالأمر عند الله لا ينفع فيه الانتماء لمجرد الانتماء، ولا الانتساب لمجرد الانتساب، وليس الأمر مجرد شعارات نهتف بها، ولا لافتات نرفعها، ولا أسماء نتسمي بها، الأمر في حقيقته هو التزام حقيقي وتطبيق عملي واقعي لما نردد من شعارات ولما نرفع من لافتات، وإلا يبقي الشعار مجرد شعار لا وزن له، واللافتة مجرد لافتة لا قيمة لها. ويبقي الادعاء في هذا الأمر مجرد كذبة كبري يعيش الناس في ظلالها طيلة أعمارهم، وهذا هو ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم حين يكذب عليهم الإعلام الديني علي لسان دعاة الدين، حين يقولون لهم قول الحق سبحانه: (كُنتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (110_ آل عمران). فعندما أسمع هذه العبارة القرآنية يرددها الدعاة في القنوات الدينية أجدني عاجزاً عن التعبير عن مدي دهشتي واستغرابي من ترديدهم لهذه العبارة علي مسامع الناس ليل نهار دون أي وازع من حرج أو خجل، بل أجدني أنا من أشعر بالحرج والخجل حين أسمع ترديدهم لهذه العبارة وحين أري الناس يصدقونهم، وما يجعلني أشعر بالخجل من ترديد هذا القول هو الحال المزري الذي تحيا فيه الأمة الإسلامية اليوم، بل يجعلني ويجعل كل من يزال يحتفظ بشيء من رأسه سالما أن يتساءل في أي شيء تكمن هذه الخيرية في الأمة الإسلامية الآن؟. بل إنني أتوجه بالسؤال مباشرة لكل دعاة الدين ولكل مشايخنا الكرام في كل ربوع الأمة الإسلامية وأطلب منهم أن يخبرونا عن خيرية واحدة وحيدة نمتاز بها الآن علي جميع الأمم؟ هل هي خيرية التعليم؟ أم خيرية التقدم العلمي والتقني والتكنولوجي؟، أم خيرية الصحة؟، أم خيرية القوة؟، أم خيرية الرخاء الاقتصادي؟، أم خيرية حقوق الإنسان؟، أم خيرية الإنتاج الزراعي والصناعي؟، أم خيرية النظم السياسية؟،،،،، إلخ. وإذا لم يكن لديهم جوابا وهو بالفعل كذلك، أقول لهم ألا يعد ذلك كذبا علي الناس وخداعا لهم وتضليلا؟، أم أنكم تقصدون بالخيرية كثرة المنتسبين للدين الإسلامي، وكثرة المساجد، وكثرة المصلين، وكثرة اللحي، وكثرة الحجاج والمعتمرين، وكثرة الصائمين، وكثرة الذين يمسكون بالمسبحة، وكثرة حفظة القرآن، وكثرة مرتديات الخمار والنقاب؟، فإن كنتم تقصدون أننا بهذه الأشياء نكون خير أمة أخرجت للناس، فعندئذ لا لوم علي أي سياسي أو اقتصادي أو مفكر أو إعلامي عربي أو مسلم حين يكذب علي الناس، وعندئذ لنقل علي الأمة بل علي الدنيا بأسرها السلام.