في كتاب "العالم، النص، الناقد" لإدوارد سعيد (1983) تجميع لعدد من أهم مقالاته ودراساته في النقد الأدبي منذ نهاية الستينيات وحتي تاريخ نشر الكتاب. الدراسة الأولي عنوانها "النقد العلماني" ويعبر فيها عن موقفه الرسمي من العلاقة بين النقاد وبين العالم. يقول إن النقاد علي العموم يمارسون شكلين من أشكال الانتماء: الشكل الأول يخص الانتماء القومي أو الوطني أو المهني وهو مبني علي علاقة نسب وبنوة، والشكل الثاني يخص الانتماء الاجتماعي والسياسي أو الانتماء التاريخي لحقبة بعينها وللظروف المواكبة لتلك الحقبة وهو مبني علي الإرادة الواعية والاختيار. ويري سعيد أن الشكلين يتحولان عادة إلي نظامي قوة وتسلط، وعلي الناقد الواعي أن يلفظهما معا بحيث لا ينتمي إلا لنفسه، معلنا في الوقت ذاته أن "التضامن لا يعلو علي النقد". في الغرب، تتمركز علاقات الانتماء بشكل أساسي حول نوع محدد من النقد يحتفي بالمعروف علي حساب الممكن والمحتمل، فكل ما هو راسخ ومعروف في تاريخ الأدب الأوروبي يحظي بنفس الرسوخ والمعرفة في الممارسات النقدية المواكبة له. لذلك يتمتع هذا النوع من النقد بقدر من الثبات والمركزية الأوروبية بحيث يصبح من الصعب عقد أي مقارنة حقيقية مع آداب وفنون أخري من خارج النسق الأدبي الراسخ، الكلاسيكي أو الحداثي، المعروف والمعترف به في الغرب. غير أن النقد الأدبي من وجهة نظر سعيد نقد علماني (مرتبط بالعالم) ورحال (متحرك في العالم) لا وطن له لأنه عابر للحدود، ولا ثبات فيه لأنه ينشأ من المسافة المقطوعة ومن الحركة الدائمة. ولا ينسي سعيد رغم كل ما تقدم أن يذكر قارئه باختياراته الأدبية التي شغل بها منذ بداياته، وهي اختيارات ترتبط دائما بسياق اجتماعي وبمدرسة أدبية محددة هي المدرسة الواقعية، فالنص علي حد تعبيره موجود في العالم، سواء كان نصا أدبيا أو نقديا، باعتباره "حدثا" أو باعتباره جزءا من التاريخ. والنص يرتبط بالسلطة كما يرتبط نقده أيضا بسلطة الناقد، وبمدي ابتعاده أو اقترابه من مراكز القوة. بين حدين قد يبدوان متناقضين، حد الوجود في سياق اجتماعي وتاريخي بعينه وحد الحركة المستمرة خارج هذا السياق، يقع ذلك النوع الخاص من النقد العلماني الذي يتبناه سعيد ويدافع عنه ضد ما يعوق حريته، سواء كان ذلك الانتماء لقبيلة النقاد، أو الانتماء لعرق أو قومية أو حزب. هكذا يري سعيد أن الناقد رغم انتمائه للسياق الاجتماعي والتاريخي يظل كائنا رحالا، يرحل من مكان لمكان بحثا عن مادة الكتابة، لكنه يظل في العمق "بين بينين"، بين الأوطان، طريد القبائل. اليوم أكثر مما مضي، أصبح من العسير علي الناقد أن يعتمد علي تراث واحد، أو علي نسق نقدي واحد في تحليله للعمل الأدبي. لذلك يتحتم عليه أن يتعرف علي مختلف الأنساق النقدية التي من شأنها أن تعينه علي المقارنة والتحليل. وعلي الرغم من اتهام البعض له باقتصاره علي مناهج التحليل الاجتماعي والتاريخي الماركسي التي أسس لها لوكاتش وجرامشي إلا أن سعيد برفضه للتضامن علي حساب النقد يعيد الاعتبار لذاتية الناقد (وعلمانيته) ضد جميع أنواع الأيديولوجية سواء كانت سياسية أو دينية. كثيرون في عالمنا العربي يقرأون ادوارد سعيد باعتباره فلسطينيا يتضامن بلا شرط أو قيد مع القضية الفلسطينية، أو عربيا يدافع عن الحق العربي وعن الثقافة العربية ضد الاستشراق وضد هوس الغرب وخوفه من الإسلام والمسلمين. لكن موقف سعيد العلماني لا فصال عليه، هو موقف يدعو بشكل شبه يوتوبي لقيام دولة واحدة علي أرض فلسطين، وينتقد السياسات العربية علي عمومها من حيث كونها سياسات قمع وترهيب، ويحارب الإسلام السياسي واستخدام الدين للوصول للحكم. في النقد الأدبي كما في كتاباته الفكرية والسياسية، يدافع سعيد عن الفكر العلماني من حيث هو فكر راسخ في العالم ومتحرر في الوقت نفسه من قيود الانتماء الأيديولوجية. لكن لعلمانية ادوارد سعيد الأدبية شروطا وحدودا لا يتعداها، مهما كانت نظرته ثاقبة وفكره واسعا. هي علمانية تقوم علي الفصل بين الدين والدنيا، بين الأيديولوجية والنقد، لا تضع في اعتبارها الكيفية التي يؤثر بها الدين علي الدنيا، وتتجنب أنماط الكتابة المتعددة التي تتجاهل في الأصل كل أشكال الأيديولوجية وتتخطاها. فيما يخص الأدب لا تأخذ علمانية سعيد في اعتبارها الجانب الروحي والميتافيزيقي للكتابة وللكاتب، إلا من حيث وضوحه وتجليه كمعلم اجتماعي أو شعائري، ولا تتناول نصوصا يمكن أن نطلق عليها لفظ أدب الأقلية أو الأدب الصغير بتعبير دولوز وجوتاري مثل أعمال كافكا. وهو نفس ما نجده في تحليله للأعمال الموسيقية الكبيرة واقتصاره علي كلاسيكيات الموسيقي الأوروبية من باخ إلي مسيان ورفضه لما عداها من أنواع موسيقية معترف بها مثل الجاز والموسيقي العربية والموسيقي الشعبية وغيرها. علمانية سعيد أقرب لفكر التنوير الأوروبي، وأكثر احتفاء وخبرة بكلاسيكيات الأدب والفن الأوروبيين، وأكثر انتماء لما يمكن أن نطلق عليه ثقافة النخبة. يشير سعيد في بداية الدراسة إلي أنه مارس كل أنواع النقد الأدبي في الصحف وفي الدوريات الأدبية المتخصصة وفي قاعات التدريس، وأنه يعتبر أن روح النقد هي المعارضة وليس الاتفاق والتوازن المحسوب، وأن ما يهمه في العملية النقديه ذوهي كما يصفها تمثل نوعا من التحدي الفكري - هو تحديدا مخالفة العرف السائد والدفاع عن الصامتين والمسكوت عنهم. هؤلاء الصامتون كثيرون في كل مكان وزمان، متغيرون في كل زمان ومكان. ورغم أن المبدأ لا خلاف عليه، إلا أن الأجناس والمدارس الأدبية المسيطرة والذائقة الأدبية السائدة تغيرت معالمها كثيرا منذ تاريخ نشر المقال في بداية الثمانينيات واليوم والمفترض أن نعيد تعريف أصول النقد العلماني وفقا لتلك المتغيرات، عملا بثنائية الرسوخ في العالم والحركة الدائمة لتخطيه.