في عام 1996 صدرت الطبعة الأولي من كتاب جديد في بابه ومضمونه ومنهجه، لا تزال حتي اليوم تتوالي طبعاته بست لغات (ليس من بينها اللغة العربية)، حمل عنوان "وداعا ديكارت" للفيلسوف والرياضي الأمريكي المعاصر كيث ديفلين، يبشر فيه بميلاد منطق جديد للعقل الانساني، تجلت بعض ملامحه في الأحداث والظواهر المختلفة في الربع الأخير من القرن العشرين، وان كانت قسماته الأساسية وقواعده وآلياته لم تعرف بعد بشكل كاف، وهو مايبعث علي القلق والحذر علي حد قوله. هذا الكتاب كان أشبه بالنبوءة التي حققت نفسها بنفسها، خاصة بعد زلزال 11 سبتمبر الرهيب عام 2001، ففي أحد فصوله المهمة يستعير المؤلف من لويس كارول في كتابه (أليس في بلاد العجائب) تشبيه عصرنا هذا ب "تكشيرة القطة"، أو قل هذا التنمر العدواني الكامن خلف الوداعة الخادعة للقطط، والذي يظهر بغتة في لحظة لا نتوقعها، ويبقي أثره السيئ في مخيلتنا لبرهة. وحسب ديفلين فإن الجديد في عصرنا هو أننا سنري دائما هذه التكشيرة لكن دون أن نري القطة أبدا!.. ذلك لأننا دخلنا عصر ما بعد الحداثة وثورة المعلومات والاتصالات.. والمعلومات ليست أشياء مادية أو عضوية يمكن السيطرة عليها أو التحكم في مساراتها واتجاهاتها فضلا عن تعقيدها وتشبيكها، ففي لحظة معينة لا نتوقعها غالبا - تتحول من الحالة التجريدية "الأليفة" الي أفعال وسلوكيات يصعب التنبؤ بها وبالتالي مجابهتها، فقد خرج الأمر بالفعل عن طوع الانسان ولابد من البحث عن مخرج. هذه الفكرة عالجها بحرفية عالية الدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام، ومدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 2002، يقول: "الخطير في الأمر هو أن عملية التدمير من الآن فصاعدا لن تعتمد علي الدولة وإنما علي منظمات أو شبكات غير معروفة العنوان أو الهوية أو لها حتي مركز واحد لصناعة القرار، لقد قام التنظيم الدولي، والعلاقات الدولية كلها بدءا من ويست فاليا عام 1648 علي أساس أن وحدتها الأساسية هي الدولة التي هي تنظيم اجتماعي يمكن التأثير فيه من خلال عملية الردع التي تبني الدولة من أجله أجهزتها الدفاعية فتشعر الأطراف الأخري ان هناك ثمنا فادحا لمحاولات العدوان" «ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وماتلاها من أعمال إرهابية لا تشير إلي أن الولاياتالمتحدة والعالم - حسب سعيد - تواجه دولة يمكن ردعها أو تخويفها أو التأثير بوسائل شتي للتوفيق والاغراء والضغط في مركز صنع قرارها، وانما تجري المواجهة مع شبكات عنكبوتية تدور حول فكرة غير قابلة للألم أو العقاب أو الحرمان، وهي مثل وحش خرافي قادم من عصور سحيقة ليست له حدود أو آفاق يمكن اختراقها أو الالتفاف حولها، وهو مايؤكد أننا أمام علاقات جديدة لاتزال في طور الاكتشاف. إن تنظيم القاعدة، وكثيرا من القواعد الأخري للإرهاب بأشكالها المتعددة الأصولية والايديولوجية غير المتقيدة بحدود الدولة ونظمها بل وقابليتها للتأثير، بات هو النموذج لطرف جديد في العلاقات الدولية.. هذا الطرف الجديد له قواعده الخاصة في العمل، وهو ليس قابلا للردع، بل هو أيضا، وذلك هو الأخطر، لا يعرف العلاقة بين سبب ونتائج استخدام سلاح بعينه". ما طرحه الدكتور عبدالمنعم سعيد في مصر، توصل إليه أيضا البروفسور فرانسوا هايزبور والباحثون الفرنسيون في مؤسسة البحث الاستراتيجي في باريس، حيث صدر كتاب تحت عنوان (فرط الإرهاب: الحرب الجديدة) في نفس العام 2002، تمحورت أبحاثه حول هذا السؤال الجوهري: هل نشهد الآن حرباً دينية كحرب الثلاثين عاما الدينية التي شهدتها أوروبا بين أعوام 1618 و1648، حرباً تشبه أوضاعها ما يعيشه العالم الآن؛ أم أننا نشهد حرباً طويلة الأمد، لها ائتلاف دولي متغير متعدد وذو مستويات تضامنية مختلفة؟ وهل سيكون للحرب الحالية تأثير علي النظام العالمي كما كان شأن حرب الثلاثين سنة (التي قادت إلي نظام وستفاليا المبني علي الدولة ذات السيادة)؟.. أما أهم النتائج التي خلصت إليها هذه الأبحاث: 1- أن الحادي عشر من سبتمبر 2001 يعد "وثبة نوعية وكمية" من حيث الأهمية والتنظيم والتزامن واللوجستية ووقع الانفجارات يجعل بالإمكان الحديث عن "أعمال حرب". فما حدث يعتبر "من بين العمليات العسكرية البارزة التي نفذت منذ عشرات السنين، والتي ستكون بأية حال ذات أهمية تاريخية في التاريخ الاسراتيجي العالمي". إنها "قطيعة إستراتيجية مهمة". 2-أن الولاياتالمتحدة استهدفت من الداخل ليس من قبل دولة ما، وإنما من تنظيم غامض المعالم. و"لأول مرة في التاريخ تتمكن منظمة غير دولية من أن تتبوأ مكانة من نفس مستوي التدمير الذي تتمتع به دولة ذات سيادة". وهذه النقلة النوعية تجعل قضايا الصراع والتهديد تطرح بطريقة غير معهودة. الكتاب الثالث الذي عالج هاتين النقطتين بالتفصيل، هو: "ذهنية الإرهاب.. لماذا يقاتلون بموتهم". ويضم شهادات لمجموعة من الفلاسفة والنقاد الأوروبيين أمثال جان بودريار، وأمبرتو إيكو، وجاك دريدا، وإد فوليامي، وجان لوكاريه، حول ما يتم تعريفه باعتباره إرهابا.. وهو موضوع المقال القادم.