يقول الفيلسوف الفرنسي "بليز بسكال": "لقلب الإنسان منطقه الذي هيهات للعقل أن يتفهمه.. وعبثًا يحاول العقل زعزعة المبادئ بالاستدلال، فإنها خارجة عن دائرته ولا شأن له فيها. ومن المضحك أن يطلب العقل إلي القلب الأدلة علي مبادئه، كما أنه من المضحك أن يطلب القلب إلي العقل الشعور بالقضايا التي يستنبطها ". وقد رفضت أفكار بسكال في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، خاصة من الفيلسوف "ديفيد هيوم" - Hume (1711 - 177)، والذي جادل أيضًا ضد ليبنتز، ونظر إلي المعرفة نظرة آلية حسية، فالأشياء الكلية المجردة الموجودة في العقل مثل مفهوم "إنسان"، هي في حقيقتها مستخلصة من أشياء جزئية مادية ( أشخاص )، أدركناها بالحواس، وعليه فإن الفكر صورة عقلية لمدركات حسية. اللافت في الأمر أن "بسكال" كان رياضيا مثله مثل ديكارت، وإن اختلف عنه في تأكيده علي أن الرياضيات - رغم استخداماتها المتعددة - فإننا لا نستطيع أن نستخدمها في كل شيء. وعلي الرغم من انتصار "الثنائية" في القرون الثلاثة الماضية، فقد وجدت من يتصدي لها من الفلاسفة في القرن العشرين أمثال: "هوسرل".. "هيدجر".. "ريكور".. "جادامر".. "سارتر".. "ميرلوبونتي".. "روي".. "فتجنشتين".. "دريفوس".. "هابرماس" وآخرون. ومن العلماء، سواء في مجال البيولوجيا أو علم النفس: "ماتيورانا".. "فاريللا" ... "داماسيو" وغيرهم، وايضًا علماء الكمبيوتر الذين أثبتوا في العقد الأخير من القرن العشرين خطأ الرؤية الثنائية، وطرحوا أيضًا هذا السؤال: إذا كانت رؤية ديكارت صحيحة.. فعلي أي أساس يكون علم "الكمبيوتر"؟.. وتبلور هذا السؤال في مجموعة مؤلفات ظهرت تباعًا بدءًا من العام 1987، وتدحض "الثنائية"، ل"فينجراد"، "فلورس"، "لوسي ستشمان". أول من تصدي لهذه "الثنائية" وحاول تجاوزها الفيلسوف الألماني "هيدجر" في كتابه العمدة "الوجود والزمان" عام 1962، الذي أتبع فيه المنهج الفينومينولوجي ل"هوسرل" - Husserl وأثبت أنه يصعب أن نفصل رؤيتنا العقلية وأفكارنا عن أفعالنا وسلوكنا في حياتنا اليومية، حتي في أبسط تصرفاتنا، وأن رؤية ديكارت (المبتسرة) لا تقودنا إلي الفهم الصحيح والعميق لحقيقة وجودنا. أما عالم البيولوجيا "هيمبرتو ماتيرانا" فقد ناقش النظرية الثنائية للمعرفة والطبيعة البيولوجية المعقدة وكيف أدت إلي تضليل مسار الفكر والاتصال وذلك في كتابه "أوتوبوسيس" ... Autopoiesis عام 1980. وتوصل مع تلميذه "فاريللا" عن طريق "نظم الحياة الاصطناعية" إلي أن: التفاعل والتواصل بين البيئة - environment ونظم الحياة الاصطناعية - Life - A (المعلومات والتكنولوجيا) جعل من الصعب أن نفصل "العقل" عن "الجسد" أو التصورات الذهنية عن البيئة المادية التي نحياها. هذه الفكرة عالجها بالتفصيل كل من "فاريللا" و"تومبسون" و"روستسن" في كتاب "العقل المندمج" عام 1991، والفيلسوف "دانيل دينيت" - Daniel Dennett في كتابه Consciousness Explained الصادر في نفس العام، وفيه يؤكد علي أن فينومينولوجيا الوعي تستطيع وحدها أن تمدنا بالفهم الكافي والواضح، بالنظر إلي المسار المعقد لنظام التفاعل والتواصل مع الآخرين في العصور الغابرة. أما الهجوم الأحدث للثنائية الديكارتية، فقد جاء من عالم الأعصاب والطبيب الإيطالي "داماسيو" - Damasio وذلك في كتابه "خطأ ديكارت" - Descartes error عام 1994. وهو يعتمد في تفنيده للفكرة الديكارتية القائلة بأن العقل الإنساني يعمل بمعزل عن العمليات الجسدية علي الكيمياء العصبية حيث يزعم أن العواطف تلعب دورًا مركزيا في اتخاذ القرارات الإنسانية. فالتصور القائل بأن العقل يوجد ككيان منفصل عن الجسم قد كان بعيد الأثر علي الثقافة الغربية بشكل كبير منذ أعلن ديكارت مقولته الشهيرة: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"، ويقوم داماسيو رئيس قسم علم الجهاز العصبي. "النيورولوجي" بجامعة أيوا والباحث البارز في مجال وظائف العقل البشري، بتحدي هذه المقولة مقدمًا حججًا مدهشة ومقنعة تعتمد بشكل جيد علي الدور المركزي الذي تقوم به العاطفة والمشاعر والانفعالات في المنطق الإنساني. وطبقًا لما يقوله داماسيو، فإن نفس تراكيب وتلافيف المخ brain-body هي التي تنظم البيولوجيا الإنسانية والسلوك الإنساني ، ولا غني عن الاثنين في عمليات الإدراك الطبيعية. ويوضح كيف أن المرضي المصابين بتلف في القشرة الأمامية للمخ ليست لديهم القدرة علي توليد العواطف أو الانفعالات الضرورية لاتخاذ القرارات الصحيحة والفاعلة، وذلك من خلال دراساته للجهاز العصبي التي تجمع بين الرؤية والذاكرة واللغة.