قال جمال الغيطاني: " أنا نادم علي ما ضيعته من وقت في مهنة الصحافة، ولكن علي أي حال لقد حققت بشكل كبير ما أريد، فعلي الإنسان أن ينقذ وقته حتي ولو كان في المحطة الأخيرة". وأضاف الغيطاني في اللقاء الذي أقامه المركز الثقافي الإسباني: "تعلمت شيئين من محفوظ، أن الأدب مثل الشاي ب"يكرف"، أي لايقبل إلا الإخلاص الكامل حتي يمكن للإنسان أن يكتب نصا صادقا يعبر عما يراه، والثاني إخضاع لحظة الكتابة لظروف الحياة وليس إخضاع لحظة الكتابة طبقا للمزاج". وعن سؤاله الأهم قال: دائما ما أتساءل إمبارح راح فين؟، أين كان الأمس؟، واكتشفت أن الحياة ذاكرة والنسيان ذاكرة مضادة، فحتي تنسي شيئًا لابد أن تتذكر شيئًا، ويتابع:" هناك نوعان من الكتّاب، واحد يحكي ونقرأه دون أن يكون هناك ما يشغله، وهناك كاتب يكتب ليصل إلي إجابة معينة، ومثل هذا النوع قليل جدا، ربما كان نجيب محفوظ الوحيد هو المشغول بذلك، فكان مشغولاً بالأصل وأنا مشغول بفكرة الزمن، بسر هذه القوة التي نري أعراضها ولا ندرك جوهرها، هل للزمن بداية؟، هل اللحظة تمضي إلي مكان ما أم تفني إلي الأبد؟، من أي جهة بدأت الحركة؟، كل تلك أسئلة أعرف أنني سأرحل قبل أن أصل للجواب الشافي المرضي عنها، ولكن عظمة الإنسان أنه يعرف أنه لن يعرف ولكنه لا يكف عن المحاولة، وقد صادقت علماء الفلك وكنت أتردد علي القطامية لأنظر إلي الكون، وهي أمور ضخمت لدي الشعور بالموت، اهتممت به كطفل وكمراسل حربي، واكتشفت ان هناك فرقًا بين الموت الذي يأتي من الخارج والموت من الداخل، خاصة مع مروري بعمليات جراحية خطيرة، وأن أعرف أن وصولي إلي هذه السن الكبيرة رحمة وكرم من رب العالمين". يعود الغيطاني إلي بداياته ويقول:" أستطيع أن أحدد اللحظة التي بدأت فيها الكتابة كانت عام 1959 حينها شعرت برغبة غامضة تشبه الغريزة، ولا عجب أن ذلك تواكب مع دخولي مرحلة البلوغ، كان يهمني منذ البداية أن أكتب شيئا لم أقرأ مثله، أي أن أضيف جديدا، حينها لاحظت أن معظم القصص والروايات مستلهمة من الغرب، فظللت منذ عام 1959وحتي عام 1967 أجرب دون أن أرضي عما أكتبه، وفي نفس الوقت كنت أقرأ في التاريخ وخاصة العصر المملوكي الذي مازال مستمرا في مظاهره حتي الآن، وما أثار انتباهي وجود أساليب سرد مهجورة، فحين قرأت بعض النصوص القديمة ووجدت أنها تتيح لي حرية في السرد أكثر من الروايات المترجمة، واكتشف أن الأدب الصوفي إذا لم يدرّس مكمّلا للأدب العربي تظل المعرفة بالأدب العربي ناقصة، لأنه الأدب الذي تحققت فيه المغامرة الروحية الكبري كما في كتاب الإمتاع للتوحيدي، وهذا ما دفعني لأن يكون لي خصوصيتي، ولتحقيق تلك الخصوصية أيضا اهتممت بالعمارة التي بدأت من اهتمامي بالمكان، فأنا أحب القاهرة القديمة، ولو تحرك حجر من مكانه استطيع أن اكتشفه فورا من ميدان القلعة إلي ميدان الجيش. وأكمل: كنت أريد أن اكتب نصا حينما يقرأه أحد يقول:هذا نص غيطاني، لذلك أؤمن أن الكاتب الذي لا يضيف للتراث الإنساني كله يكون ناسخا وليس مبدعا، ولذلك لا أكتب لأنافس زملائي ولكن لأنافس كل الكتاب السابقين، وحتي الآن وأنا في هذه السن عندي طموح أن أكتب شيئًا لم يكتب من قبل". وفي تقديمه للقاء أكد الدكتور محمد عبد المطلب أن جمال الغيطاني منذ أن خرج طفلا من قريته "جهينة" راحلا إلي القاهرة، وهو مصاب باغتراب ظل ملاصقا له طوال حياته، وهو ما شكل شخصية ودفعه للإبداع في مجالات غير مطروقة كالعرفانية والصوفية، وقال: ابنتي شاهدت مسلسل "الزيني بركات" وأرادت أن تقرأ الرواية، وبعدما انتهت منها سألتني متي ولد الغيطاني، وفي أي قرن؟، هذا السؤال دفعني لأن أدرك أن عمر الغيطاني من عمر مصر، وسألت نفسي: ما الذي يجعله يعيش هذا العالم المملوكي الذي انتهي منذ عشرات السنين، واكتشفت أن ذلك يعود لامتلاكه لمخيلة مزهلة، ولأنه علي غير ما تعودنا في الإبداع لا يعتمد علي الرؤية ولكن المشاهدة، أي إدراك الحقيقة الأولي".