بقلم : عياد البطينجى تلتقي "حماس" وإيران بمصالح متبادلة؛ فمن جهة تحتاج إيران ل"حماس"، ليس فقط كما يروج إعلاميا كورقة ضغط في وجه إسرائيل، بحكم أن "حماس" لديها منظومة عسكرية قادرة علي إقلاق إسرائيل بضربات موجعة بيدٍ "حمساوية" موجهة من صانع القرار القابع في طهران، لاسيما أن "حماس" ترفض عملية "السلام" وتتبني المقاومة كخيار استراتيجي ومنضوية تحت لواء ما يسمي ب"الممانعة" بزعامة إيران. وما "حماس"- والحالة كذلك - إلا يد إيران الضارية في خاصرة إسرائيل الجنوبية. وتحتاج "حماس" إلي إيران كرافعة وسند في مواجهة جبهتين تنظر إليهم "حماس" كعدوين وهما: إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية ومن ورائها حركة "فتح وفي الوقت الذي وجدت "حماس" فيه نفسها محاصرة والأبواب العربية موصدة أمامها، وفي الوقت ذاته تستفيد السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" من الدعم العربي، وحرم "حماس" من هذا الدعم بعد فوزها الكبير في الانتخابات التشريعية الثانية في يناير 2006. لذا تجد "حماس" أن علاقتها مع إيران وسورية مهمة لها لكي توازن علاقة السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" مع أطراف عربية كمصر والسعودية. لذا تصبح إيران مهمة بالنسبة إلي "حماس" كي تتكئ عليها وتستقوي بها في إطار صراعها الداخلي وكذلك لمساومة محور ما يسمي ب "الاعتدال" العربي، خاصة أن هذا المحور قاطع "حماس". في الحقيقة إن الدعم الإيراني ل"حماس" ليس هذا هدفه أي إقلاق لإسرائيل وتشكيل نتوء يوخز خاصرتها كالنصل المسنون، واختراق المجال الحيوي لإسرائيل، فالهدف أعمق وأشمل من ذلك، لاسيما أن "حماس" لا تشكل رافعة لإيران ولا مصدر قوة يمكن أن تتكئ إيران عليها في حال وصل التناقض إلي ذروته مع إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية فيما يخص المسألة النووية، بل إن الدعم الذي تحتاجه إيران أكبر من قدرات "حماس" أو أي تنظيم فلسطيني آخر. نعم تستطيع حماس أن تثير المتاعب والقلاقل لصالح إيران، أو تسخين الجبهة الجنوبية ضد إسرائيل، ولكنها لا تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك. وحتي الآن لم يثبت بالفعل إن كانت "حماس" خاضعة للقرار الإيراني أم لا. ليس معني ذلك أنها ليست كذلك، أي تابعة لإيران، بل القصد هنا أن الحكم علي مدي خضوع "حماس" لصانع القرار الإيراني لم يحن بعد. فمن الناحية الموضوعية لم تحن لحظة الحكم علي مدي تبعية "حماس" لإيران، وأي حكم في هذا الخصوص هو حكم أيديولوجي وليس حكما علميا. وسنتحدث عن ذلك بعد سطور. فلإيران أهداف استراتيجية كبري من جراء دعمها ل"حماس"، أبعد من استعمال الأخيرة كورقة كما يروج. فلإيران دور إقليمي تسعي إليه بما يتواءم مع إمكانياتها وقدراتها كدولة محورية في المنطقة، لذا فهي تري نفسها تستحق دورا إقليميا متميزا وإن لم يعترف بهذا الدور فستعمل علي انتزاعه عنوة. وعليه فإن أي دور لأية دولة في منطقة المشرق العربي لا بد أن يكون العبور إليه من خلال البوابة الفلسطينية. ودعم إيران ل"حماس" يهدف إلي الدخول لهذه البوابة التي ستفتح آفاقا لها في المشرق العربي كون القضية الفلسطينية هي "قضية العرب الأولي". "فقضية فلسطين واستمرار الاحتلال والغطرسة الإسرائيليين هي بوصلة القيادة الإقليمية. شئنا أم أبينا، مللنا من القضية أم لم نمل، طالت أم قصرت، برزت قضايا وحروب أخري تنافس علي ترؤس الأجندة الإقليمية أم لم تبرز، تظل قضية فلسطين (طالما لم تحل) هي الباروميتر الذي يحكم من خلاله الرأي العام وغيره علي أهلية ودور وموقع هذا البلد أو ذاك" (خالد الحروب: حتي لا يصل جدار غزة إلي المحكمة الجنائية الدولية، الحياة، 27 ديسمبر 2009). وهذا ما تقوم به تركيا، ف"التشدد التركي حيال إسرائيل لقي استحساناً جماهيرياً، ونخبوياً عربياً ولو من الباب العاطفي والشوق العربي إلي قيادة عربية أكثر جرأة في مواجهة الإذلال المتواصل الذي تمارسه إسرائيل حيال الفلسطينيين والعرب". وتعود تركيا إلي الشرق الأوسط من بوابة الصراع العربي - الإسرائيلي، تماماً كما أمنت إيران حضوراً سياسياً طاغياً في المنطقة أيضاً من بوابة هذا الصراع. فالتأييد الذي يلقاه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لدي العرب الآن، مصدره الموقف التركي المعارض بشدة للحرب الإسرائيلية علي غزة قبل عام. لذا ليس مستغربا أن ترفع صور طيب رجب أردوغان في غزة. وبالتالي فإن الدعم الإيرانيلفلسطين من خلال "حماس" ما هو إلا تعبير رمزي ليس إلا. ومن هنا فالدعم الإيراني-كما تريد إيران- ل"حماس" أصبح رمزا دالا علي مقاومة المشروع الصهيوني في المنطقة، ورفض الهيمنة الأمريكية، والدفاع عن القضية الفلسطينية، والقدس، والشعب الفلسطيني المغبون، كل ذلك له مكانته المقدسة لدي العرب والمسلمين. وبذا تحصل إيران علي المكانة التي ستجنيها من جراء ذلك. وهكذا فإن الدعم الإيراني ل"حماس" ما هو إلا تعبير رمزي تريد إيران أن تظهر من خلاله بأنها رمز يدل علي القوة والعظمة الإيرانية؛ لأنها تسير بخط مناقض لاتجاه المشروع الصهيوني وهو أمر مرغوب عند الشعوب العربية. وتريد إيران أيضا أن تظهر من خلال هذا الدعم أنها حاملة المشروع "النضالي المقاوم والممانع" ضد الوجود الصهيوني والشيطان الأكبر، وحامية حمي القدس والملة، في وقت خذلان النظام العربي، من تقديم أي دعم للمقاومة وتعزيز صمود الفلسطينيين. وتصبح إيران-والحالة كذلك- رمز "المقاومة" والصمود في المنطقة، مقابل تراجع واستسلام وتخاذل النظام العربي. ورمز التحدي والقوة، مقابل الرضوخ والضعف، ورمز الجرأة والمبادرة والفعل، مقابل الجبن والبقاء كطرف مفعول به. وبالتالي تكتسب إيران رصيداً وأهمية في الشارع العربي حين يبدو أنها تتبني "قضية العرب الأولي" التي تخلت عنها الأنظمة العربية والتفتت لقمع شعوبها. في الوقت الذي تبدو فيه طموحات إيران النووية رامية عموماً لأن تصبح لاعباً رئيساً علي الساحة الإقليمية وتتبوأ لقيادة العالم الإسلامي(أم القري بالتعبير الإيراني) علي نطاق أوسع. وهذا ما يفسر ميل الشارع العربي إلي إيران، وهو ميل ليس حبا في إيران بقدر ما هو تأييد لها كتعبير رمزي أيضا مبعثه الشعور بالغبن في عالم يتجاهل العرب وقضاياهم، في عالم يناصر الأنظمة العربية التسلطية ويغض الطرف عما تفعله بالشعوب التي تتحكم بها، في ظل مجتمعات عربية مكبوتة، مهينة، محتقرة، وأمراض تنخر في أحشائها. وهنا يجنح المظلوم لردود الأفعال، فعندما يتشيع هذا في فلسطين، أو ذاك في المغرب العربي فهو تعبير رمزي عن فعل له معني عند هؤلاء المتشيعين، تعبير عن حالة الظلم والاستهانة والضعف، وجد هؤلاء بإيران كحالة نقيضة لما أصاب المشروع النهضوي العربي من تردٍ وانهيار وضعف. بالتأكيد إن إيران لن تطلق طلقة واحدة من أجل فلسطين، ويبقي دعمها فقط دعما معنويا وشعاراتيا. فماذا فعلت إيران لأهل غزة في محنتهم إثر العدوان الإسرائيلي علي القطاع، حيث اكتفت بالتنديد والشجب والاستنكار، وعمليا لم تفعل شيئا، بل جبرت العدوان وما ترتب عليه من نتائج لخدمة مصالحها واستراتيجيتها الشاملة في المنطقة من خلال إضعاف خصومها وإحراج النظم العربية الحاكمة وإظهار نفسها كقوة تدافع عن الحق الفلسطيني في الوقت الذي يتراجع فيه العرب عن ذلك. وماذا فعلت إيران بالحصار المضروب علي غزة، اكتفت فقط بالتنديد بالصمت الذي تلتزمه الدول العربية تجاه الحصار متهمة بعض الرؤساء العرب بالتآمر علي غزة مثلما تآمروا علي لبنان خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006، وشنت هجوما إعلاميا ودبلوماسيا ضد السعودية ومصر. هكذا جيرت إيران العدوان والحصار لإضعاف خصومها في المنطقة وإظهارهم بمظهر الضعفاء وتعريتهم أمام شعوبهم، من خلال لومها للعرب في تقصيرهم بحق القضية الفلسطينية، وإضعاف النظم العربية والقيادات الحاكمة، وإظهارها بمظهر النظم الراضخة للمشروع الصهيوني، لاكتساب أرضية جديدة وإحراز النقاط في مرمي الحكام العرب . وبالتالي فإيران لم تقدم للفلسطينيين سوي الشعارات والخطابات. إذن لم يختلف الموقف الإيراني عن نظيره العربي. ولكن الاختلاف فقط في حدة اللغة والخطاب والشعار الذي لامس مشاعر وأحاسيس الجماهير العربية المغبونة وهي جماهير تعشق الخطاب المشحون المفعم بالانفعالات واللغة الحادة البعيدة كل البعد عن الفعل العملي العقلاني. وهو خطاب يجد طريقه في تربة محرومة ومتعطشة للخطاب الحماسي والعاطفي؛ لأن مستوي عواطفها (الجماهير) يزيد كثيرا عن مستوي وعيها وفهمها العقلاني. هذا الخطاب استطاع أن يغزو عقلها سريعا. وبالفعل وجدت إيران تأيدا لها في الشارع العربي. والهدف الآخر من الدعم الإيراني ل"حماس"، هو تجسير الفجوة بين المصلحة القومية الإيرانية وأيديولوجيا الثورة الإسلامية المتجسدة في النظام الحاكم (الثيوقراطي). إن السياسة الخارجية الإيرانية تأسست علي ركيزتي المصلحة الوطنية والأيديولوجية الإسلامية داخل إطار الإرث الامبراطوري التاريخي ضمن أفق للتطلع للعب دور الدولة الإقليمية المهيمنة. والفكرة الرئيسية هنا أن أحد المرتكزات الرئيسية للسياسة الخارجية الإيرانية-كما ينص الدستور الإيراني- هو الدفاع عن المستضعفين والعداء للمستكبرين، والدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية. المشكلة هنا أن السياسة لا تعمل ولا تتحرك من منطلقات أخلاقية ومبدئية، فالسياسة هنا هي فن الممكن، وهي تقوم علي أساس المصلحة أولا وقبل كل شيء. وهذا صحيح فجميع الأنظمة تتعامل مع الأحداث والصراعات والخلافات السياسية من منظور المصلحة السياسية، وأن مصالح الأمن هي أكثر ما يحرك الدول، ويستنهض هممها، لذا فإن الدول تهتم أشد الاهتمام بالمحافظة علي قواتها وتعزيزها. وبالتطبيق علي إيران التي تحاول أن تجمع بين مصلحتها القومية وأيديولوجيتها الإسلامية، نجد في سياستها الخارجية الكثير مما يخالف هذه الرؤية، أي أيديولوجيتها الإسلامية، فالعراق وأفغانستان يمثلان الدليل الناصع علي ذلك . لذا تكون فلسطين أو بالأحري "حماس" والمنظمات الفلسطينية الأخري التي تتلقي الدعم الإيراني، حلا لهذا الإشكال. فمن خلال دعمها ل"حماس" تؤكد إيران التزامها الأيديولوجي(العقدي) تجاه القضية الفلسطينية، ويشكل ذلك الأنموذج لنشاطها المرتكز علي البعد الإسلامي للصراع. وهكذا تثبت إيران أنها ملتزمة بمرجعيتها الدينية في أهم قضية إسلامية ألا وهي القضية الفلسطينية. وبذا تعطي لنفسها الحق في الاعتراض علي كل من يدعي أن ما يحرك سياستها هو مبدأ مصلحي أناني فقط منزوع من أي بعد إسلامي عقدي، فبدعمها ل"حماس" تثبت إيران العكس. قلنا في مقدمة المقال إن الحكم علي تبعية "حماس" لإيران يصعب إثباته بطريقة علمية، حيث إن المحك أو المعيار العلمي في الحكم علي مدي استقلالية "حماس" أو تبعيتها هو تناقض مصلحة الأخيرة مع المصلحة الإيرانية مع بقاء استمرار "حماس" في تأدية دور يصب في مصلحة إيران لا مصلحتها هي. وفي الحقيقة إن هذه المرحلة لم تأت بعد. يمكن أن يقال- مثلا - إن "حماس" تعرقل المصالحة الوطنية بقرار إيراني، وهو ما قيل بالفعل. نقول إن هذا لا يعتبر مؤشرًا علي التبعية؛ لأن "حماس" لا تريد المصالحة في هذا الوقت، أي قبل ضمان الاعتراف الأمريكي أولا والاعتراف العربي ثانيا بها كقوة لها دورها في النظام السياسي الفلسطيني، أي اعتراف الخارج بها كقوة بديلة عن "فتح" ومنظمة التحرير وأنها بوابة الدخول إلي القضية الفلسطينية. لذا فإن المصلحة متطابقة وليست متعارضة بين "حماس" وإيران. ومع ذلك أري كباحث ومراقب لعلاقة الفصائل الفلسطينية وطريقة تعاملها مع الخارج وبخاصة مع إيران وسورية، أن بعض هذه الفصائل لا تستند في علاقتها مع الخارج علي أساس القوة والندية والاعتزاز بالنفس كونها تحمل قضية مقدسة لدي المسلمين والعرب، أي القضية الفلسطينية، بل تتعامل بضعف وبمستوي متدنٍ من القوة والثقة بالنفس، وهذا قد يكون شرطا نفسيا لقبول الاستتباع للخارج. ومن مؤشرات ذلك أن بعض القيادات الفلسطينية في مقابلتها لدول كإيران أو سورية كانت تطالب بأن تكون علاقتها عبر وزارة الخارجية لا عبر الأجهزة الأمنية كتعبير عن القوة والندية في العلاقة، ومع رفض هذا المطلب، تقبل هذه القيادات في النهاية أن يكون التنسيق من خلال الأجهزة الأمنية، وهو الشكل الغالب في علاقة هذه القيادات مع هذه الدول. وهذا يدفعنا إلي التشكك والتوجس من تبعية الفصائل الفلسطينية لسورية وإيران رغم عدم ثبوت ذلك بأدلة علمية وموضوعية قاطعة كما بينا سابقا. ونتمني أن نكون مخطئين فيما ذهبنا إليه وأن لا ينطبق ذلك علي علاقة "حماس" بإيران. وما يدعو للدهشة أيضا ويضع علامة استفهام علي طبيعة هذه العلاقة، هو ما صرح به خالد مشعل زيارته إلي طهران في ديسمبر 2009، "إن الحركات الإسلامية في المنطقة ستقف جبهة واحدة مع إيران إذا تعرضت لهجوم من جانب إسرائيل". وبرغم أن مشعلا ليس ناطقا باسم الحركات الإسلامية في المنطقة لكي يحدد ردود أفعالها؛ إلا إذا كان مطلعا علي ذلك وأن هناك تنسيقا بالفعل بين هذه الحركات وأن لديهم رؤية واضحة تجاه هذه المسألة. والتساؤل هنا: ما طبيعة الدعم الذي يمكن أن تقدمه الحركات الإسلامية لإيران؟ إلا أن هذا ما يدفع إلي التخوف والتشكك في مدي استقلالية "حماس" عن إيران. ومع ذلك نقول إن لحظة الحسم لم تأت بعد، ويمكن أن يكون موقف مشعل موقفا تكتيكيا بغرض الحصول علي المال الإيراني ليس أكثر من ذلك.