تشكل الثقافة أحد المكونات الأساسية للبناء الاجتماعي، فهي التي تصوغ المحتوي الفكري والحضاري والفني لمجتمع ما، علي الرغم من اختلاف النماذج البشرية في ثقافتها الذاتية بتمايز منابع الثقافة والوعي المجتمعي، من هنا فإن للثقافة تأثيرًا مباشرًا علي النسق الاجتماعي والنفسي، وجميع الأطر والأوعية التي يبدعها المجتمع لتسيير شئونه أو تطوير وضعه المادي والمعنوي.. فالثقافة كائن حي يتطور باستمرار ويتكيف بشكل إيجابي مع التطورات والمتغيرات الجديدة وعلي هذا الأساس تعد الثقافة أسلوبا من أساليب التهذيب الاجتماعي ونمطًا من أنماط صياغة المجتمع مع ما يتناسب والقيم والمبادئ التي تنادي بها تلك الثقافة، وهذا ما ينسجم ومعني الثقافة في اللغة العربية، إذ إن الأصل اللغوي ثقف يحمل معني التهذيب والصقل والإعداد، وهنا تكون الثقافة عملية رعاية وإعداد مستمرين للعقل والروح البشرية، وهذا ما أطلق عليه في القرن السادس عشر في أوربا تدريب العقل، ووصفه فولتير بتكوين الروح، وتأسيسًا علي هذا فإن الثقافة تضم ثلاثة عناصر رئيسية، أولها: العنصر الإدراكي، ويضم مجموعة القيم والأفكار والمبادئ التي تساعدنا في الإدراك الموضوعي للعالم المحيط بنا وما يتضمن من مونات. وثانيها، العنصر العفوي الذي يضم مجموعة القيم والأفكار التي تساعدنا في التفضيل بين الأشياء. ثالثها، العنصر الوجداني الذي يساعدنا في تشكيل الاتجاهات السلبية أو الإيجابية نحو العالم المحيط بنا أو مكوناته. لذلك تعتبر الثقافة المحصلة النهائية التي تشكل نظرية متكاملة في المعرفة والسلوك، لأنها هي التي تقوم بإحياء الهوية الجماعية وتعبئتها وإعادة تنشيط عناصرها ورموزها وتوحيدها، وتحديث مقومات الشخصية الوطنية وفق منظومات ونظم تنسجم وحاضر المجتمع وراهنه. لهذا فإن الثقافة هي التي تعبر عن المجتمع وتطلعاته، قوانينه، نماذجه، مسلماته وأبجدياته. وعندما تتعرض ثقافة ما إلي تدفق متواصل من مفاهيم وأفكار جديدة لا نستطيع أن نقاومها ولا أن نستوعبها في أطرها النظرية يحدث أحد أمرين: إما أن تتفكك وتنحل مستقلة متكاملة وذات انسجام ذاتي، أو أن تعدل من آلياتها وتكيف نفسها مع المفاهيم والأفكار الجديدة حتي لو جاء ذاك علي حساب التحامها بالواقع والتصاقها به لأن لكل ثقافة بيئة محلية وتاريخية ومجتمعية ولها توازناتها الذاتية المستمدة من معطي المنابع والمصادر الأصلية لهذه الثقافة ومعطي الواقع وتفاعلاته. لذلك فإن لكل ثقافة شخصية متميزة عن الثقافات الأخري. ولذلك فإن السؤال المطروح هو كيف ننظر إلي التنوع بين الثقافات رغم تعدد النظريات والأطروحات؟ يتفق العلماء الاجتماعيون علي أهمية الوعي بالتنوع الثقافي، والقدرة علي التواصل عبر الثقافات، والكفاءة الثقافية، بوصفها ضرورة للعيش في عالم يتزايد فيه التعرض لثقافات أخري وضرورة التعامل مع هذه الثقافات، كما تمثل الخبرة بالثقافات المتعددة في جانبها الإيجابي فرصة لتنشيط الطاقات الإبداعية للأفراد، من خلال توسيع الأفق وإعطاء الفرصة للامتداد بالأفكار، حيث يري الباحثون أن الخبرة متعددة الثقافات قد تؤثر علي الإبداع بطرق مختلفة تعلم الأفراد لأفكار ومفاهيم جديدة من خلال التعامل مع ثقافات أخري - يسمح هذا التعامل بأن يعي الفرد العديد من الأنماط السلوكية ذات المعاني المختلفة - وقد تؤدي خبرة التعدد الثقافي إلي اهتزاز وإعادة النظر في العديد من أساليب التفكير والقيم والسلوكيات والعادات المستقرة في الثقافة، والبحث عن أساليب وقيم جديدة قد تكون أكثر ملاءمة مع التغيرات التي تحيط بنا. من هنا تأتي أهمية الإعلام في تفعيل هذه الثقافة، فما تروج له بعض الصحف ووسائل الإعلام من أن هناك مؤامرة خارجية تؤثر في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، من خلال ما تبثه علينا الثقافات المختلفة الوافدة إلينا، هو في الحقيقة هروب من المسئولية التي نتحملها جميعًا، وعلينا أن نتصدي لأي محاولة قد تأتي من هنا أو هناك تعكر صفو العلاقة التي تجمع بين أبناء الوطن. وحتي يقوم الإعلامي بدور إيجابي في بناء الجسور في المجتمعات، فإنه يحتاج إلي إعداد مهني ونفسي واجتماعي، فالتكوين الفكري للصحفيين، وبخاصة الشباب، يشمل إرساء بنية تفكير نقدي تقوم علي مبادئ الحرية والاستنارة والديمقراطية والمواطنة والحوار. أما التكوين المهني فيشمل صقل الإعلاميين بمهارات مهنية، وأساليب حرفية متقدمة تساعدهم علي أداء عملهم علي نحو أفضل، مع ضرورة أن يحافظ الإعلام علي التنوع في ضوء ميثاق يتعين الوصول إليه للعيش المشترك. أما التكوين القانوني فيعني إكساب الإعلاميين معارف قانونية يتصل بالتشريعات والمواثيق المهنية، ويؤكد قبول التنوع، واحترام الخصوصيات، والتنوع الديني والمذهبي، في إطار مجتمع متسامح، بحيث لا تستخدم المنابر الإعلامية للحض علي الكراهية، أو رفض الآخر المختلف.