كعادتنا تستغرقنا شهوة التشخيص كلما وقعت بنا واقعة، ولا نخرج منها إلا لاستغراق آخر لحادثة أخري، دون أن نتجاوزها إلي الدخول إلي دائرة العلاج، وإذا خرج علينا البعض برؤية علاجية لا نلتفت إليهم بل قد نشك في النوايا وفي المرامي، علي خلفية اصطفاف حاد تمترس خلف أجندات خاصة طائفية وفكرية تاريخية. ولعل من تابع أو استعرض ملف التطرف علي الأقل عبر العقود الأربعة المنصرمة يكتشف هذا الأمر منذ أحداث الخانكة وتداعياتها 1972 وحتي أحداث نجع حمادي 2010، ويكتشف أن سطور تقرير لجنة تقصي حقائق أحداث الخانكة تقرير العطيفي مازالت تتردد بعد كل حادثة بصور متعددة لكن جوهرها لم يتغير، وهو أمر يجعل تكرارها أمرًا واردًا بل ومتوقعًا، في زمن مختلف لم يعد لأسباب عديدة يملك قدرة الحيلولة دون انفجار عشوائي مدمر بدعم من اختلالات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية داخلية، ومتغيرات إقليمية ودولية تري فيه الانفجار تحقيقًا لطموحات لن تتحقق في وجود كيان مصري متماسك ومندمج وموحد. وفي ظني أن الرهان علي خلخلة الواقع المحتقن من خلال تغيير ذهنية الشارع والفاعلين في دوائر آليات تشكيل الوجدان والفكر وأصحاب القرار هو رهان خاسر، ربما لهذا نكون بحاجة إلي قدر وافر من شجاعة مواجهة النفس وقراءة الواقع بشفافية وعيون متبصرة، فقد اتسع الخرق علي الرتق، لنضع نقطة في نهاية سطر منظومتنا الفكرية المسيطرة علي الذهنية العامة، ونبدأ جملة جديدة من أول السطر. السطر الأول في الجملة المنتظرة هم الأطفال، والأجيال الواعدة التي لم تقع بعد في براثن المتصارعين علي كعكة الوطن، وهم في ذات الوقت المرشحون الأساسيون لدفع فاتورة التدمير. وهذا ما تنبه له مع مولد القرن العشرين ثم في العقد الثالث منه شخصان مصريان، اختلفا في الديانة واختلفا في التوجه، لكنهما اتفقا في الهدف المعلن وفي المدخل، في مفارقة تحتاج إلي تحليل، وبحسب الترتيب التاريخي كان أولهما الأستاذ حبيب جرجس وثانيهما الشيخ حسن البنا، أسس الأول ما عرف بمدارس الأحد عام 1900 فيما أسس الثاني ما عرف بجماعة الإخوان المسلمون، وهذه المقارنة لا تحسب بحال مقارنة بينهما، لم يتجه كلاهما إلي النخبة التي كانت مستغرقة في خلافاتها وأنساق حياتها المتعارضة، بل اتجها إلي الأطفال والعامة، فقد تأسست مدارس الأحد في غرفة ملحقة بالكنيسة تجمع أطفالاً صغارًا يلقنون مبادئ الدين وطقوس الكنيسة سرعان ما تنامت لتصبح نسقًا عامًا في كل كنيسة، وولدت فكرة الإخوان بحسب كتاب مؤسسها: مذكرات الدعوة والداعية ترتيبًا علي سنوات النشأة الأولي الي تأثر وهو بعد صبي بمدرسة الرشاد الدينية، وربما لهذا أسس مع بعض من أقرانه جمعية منع المحرمات قبل أن يلتحق بمدرسة المعلمين بدمنهور والتي تخرج فيها ليعين مدرسًا بالإسماعيلية، وهناك يقرر أن يستهدف العامة من رواد المقاهي والصبية في مراحل التعليم الأولية، قبل أن تتبلور جماعته تلك. وأهمية التجربتين يمكن أن نلمسها اليوم، فكل الكوادر المسيحية علمانيون واكليروس أبناء مدارس الأحد، وكل الكوادر الإسلامية في تنظيمات الإسلام السياسي والتي تجاوزت مصر إلي العديد من الدول حتي إلي الغرب الأوروبي والأمريكي أبناء وأحفاد الإخوان المسلمين، تفرعًا أو انشقاقًا. ومن هنا تأتي أهمية التعويل علي النشء والصبية والأجيال الواعدة في دورة جديدة من دورات التاريخ وفق معطيات باتت ملحة وفاعلة باتجاه المجتمع المدني ومن ثم الدولة المدنية، بعد أن أورثتنا تجارب الاحياء السياسي للدين نتائج وخيمة تهدد الاندماج الوطني بل وتهدد السلام الاجتماعي وتقف وراء أعمال العنف محليًا ودوليًا. ولعل الأمر يتطلب دعم توجه وزارة التعليم الساعي لمراجعة منظومة المناهج كتاب ومعلم ومدرسة ومناخ« والذي يتبناه بحزم الأستاذ الدكتور أحمد زكي بدر وزير التعليم، باعتبار التعليم خاصة في المرحلة الابتدائية أحد أهم آليات تشكيل وعي وفكر الأطفال والصبية، وحال نجاحه مدعومًا من كل القوي المستنيرة، وبإدارة سياسية واعية لأهمية بعث وتأسيس القيم المدنية، ستسقط كل دعاوي التمايز وما يترتب عليها من استبعاد للآخر أو الفصل المجتمعي العنصري علي الهوية الدينية، وسنضع أقدامنا بثقة علي طريق التنمية الحقيقية والتي لا بديل عنها للعودة إلي صفوف الدول المتقدمة، والتي كانت خطوتها الأولي عدم الخلط بين ما هو ديني وما هو سياسي، وكان شعارها الأثير: الحرية، العدل، المساواة، وفيها عاد رجال الدين إلي ثكناتهم في غير إقصاء أو مصادرة، ولعلنا مازلنا نذكر أن الولاياتالمتحدة انتبهت وهي تخوض صراعها التاريخي مع الكتلة الشرقية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي إلي حاجتها لتطوير منظومتها التعليمية وهو ما رصده تقرير بالغ الأهمية صدر فيها تحت عنوان أمة في خطر« فيما اسمته تخلف التعليم لديها عن التعليم في أوروبا، ثم تابعته بتقرير صدر في بداية الألفية الثالثة يكشف عن استمرار حاجتها لتطوير التعليم بالرغم مما حققته، وهي تقارن تقدم التعليم الياباني عنها، هكذا يكون الحال في الدول المتقدمة ارتكانًا إلي الشفافية والمصارحة، فهل نملك أن نواجه واقعنا بمثل هذا، وهل نبادر بوضع نقطة ونبدأ جملة جديدة من أول السطر؟!