لا أعرف إذا كان تعليم التمثيل يعتمد علي عزلة الأستاذ والطالب عن الممارسة العملية اليومية أفضل من توحد الأستاذ والطالب في عجلة المسرح الدوارة. ولقد تطور العصر حاليًا فأصبح أستاذ التمثيل مثقفًا أكاديميا وعالمًا مكتفيا بعلمه معزولا عن أي ممارسة فعلية في ميدان التجربة العلنية للإبداع المسرحي (طبعا البعض وليس الكل). كيف يمكن للطالب الجديد أن (يصدق) أن معلمه الذي يتولي تعليمه (عظيم الموهبة) وما هي الدلالة أو (الأمارة) الفعلية. في زماننا كان يتولي التعليم مخرجون كبار أو ممثلون عظام اثبتوا القدرة والحضور والنجاح والشهرة. حتي عندما جاء محمود مرسي لتدريس نظريات التمثيل سبقته شهرته الواسعة في السينما وعندما جاء محمد توفيق أو أستاذنا الاذاعي محمد علوان كانا من اشهر المؤدين والمخرجين في الراديو. ربما أتي العصر الحالي (بنظريات التخصص) والانقطاع علي صنف واحد من صنوف (النشاط) كالتدريس فقط - أو التمثيل فقط - أو الإخراج فقط، لكننا ولحسن حظنا كان أساتذتنا من كبار المخرجين القادرين علي مزج الفنون النظرية بالتطبيقات العملية. وهكذا وجدنا أنفسنا صباحًا في تدريبات مع أساتذتنا نبيل الألفي ومساء معه أيضًا في تدريبات مسرحية موليير الشهيرة (دون جوان). والحق أن الاستاذ في فصلنا الدراسي يقوم بعمل مختلف تمامًا عما يقوم به أثناء إخراج المسرحية لنجوم محترفين مشهورين مثل حسين رياض وسناء جميل وسميحة أيوب وسعيد أبو بكر ومحمد الطوخي ومحمد الدفراوي، وغيرهم. فالملاحظات في محاضراته لنا (تعليمية) مليئة بالشرح والتوضيح، لكن ملاحظاته للمحترفين مليئة بتعميق الأداء وإثارة المشاعر والأحاسيس وتلقينه التعبير وتحسين الحركة واللغة، ودقة التكوين. إنها ملاحظات الصائغ مع جواهره الثمينة، أما معنا فهي متاعب الباحث عن شيء لامع وسط التراب، إنها عملية (تعدين) وكم كان الأمر مدهشًا وجميلا وأنت تري الأستاذ الألفي يخرج دون جوان لفريقين من الممثلين يتبادل كل فريق العمل يومًا ويتم التنافس بين الفريقين علي خشبة المسرح، وإلي جانب الإخراج كان يمثل دور (دون جوان). وهو الليلة يلعب الدور وغدا يلعب نفس الدور الشاب محمد الدفراوي، وتصاحب الألفي سناء جميل أما الدفراوي فتصاحبه سميحة أيوب ويكون والد الألفي حسين رياض أما والد الدفراوي فمحمد الطوخي، أما سجاناريل مع الألفي فهو علي رشدي وسجاناريل مع الدفراوي هو الأستاذ سعيد أبو بكر. الحياة في كواليس المسرح لطالب يتعلم ثراء في الحق أراه يفوق عشرات المحاضرات النظرية، فأنت تدور مع عجلة المسرح الدوارة تتعلم من الممارسة اليومية وتسمع كل الأصوات وتدرك (الحرفة) كذلك تتلقي دروسًا بليغة في التقديس والاحترام لخشبة المسرح ولفنه العريق، واذكر أن كبار الممثلين مثل الأساتذة فؤاد شفيق وشفيق نور الدين ولطفي الحكيم وحسن البارودي كانوا يصلون للمسرح قبل بدايته بأكثر من ساعة وهم يجلسون في غرفهم يستعدون للعرض بوضع الماكياج وارتداء الملابس. أيام المسرح القومي العتيق، أيام لا ينساها أحد، لقد علمنا هذا المكان الاحترام والخشوع والأدب في التعامل حتي أننا عند دخوله نمشي علي أطراف الأصابع حتي لا نسبب إزعاجًا لمن فيه من الفنانين ولا نرفع أصواتنا بكلام أو بحوار ونترك للصمت أن يكون معاونا لفناني المسرح علي التحضير والاستعداد للأداء، ويظل المسرح القومي بالنسبة لجيلي هو بيت العيلة، ففيه نولد ونتدرب ونتغذي بأول دروس المسرح وعلي خشبيته نؤدي امتحانات التخرج وعليها نشارك الكبار اعمالهم، وله نخرج ابداعاتنا وبقاعته وبناويره نجلس لكي نتعلم ونشاهد ونشارك نجاحات المسرح فالعجلة الدوارة تدور والمسرح لا يكف عن الدوران. متي تعود عجلة المسرح للدوران.. متي تعود الفرقة المسرحية الكاملة المتكاملة.. متي يمتزج الدارس وسط عمالقة الاحتراف.. متي يعود المسرح (الذي هو بجد)؟ أعتقد سيعود.. يوما فعجلة المسرح دوارة.