وسط الغبار الذي أثارته تصريحات عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية (بعد) أن أدلي محمد البرادعي بمجموعة مواقفه بخصوص نيته غير المصرح بها بشأن الترشيح للرئاسة في 2011، ردد البعض روايتين.. الأولي تقول: إن موسي حين كان وزيراً للخارجية فإنه أقدم (شخصياً) علي ترشيح السفير محمد شاكر مديراً لوكالة الطاقة الذرية.. نكاية في خصمه السابق محمد البرادعي.. وتقول رواية أخري: إن مصر (الدولة) امتنعت عن دعم محمد البرادعي ولم ترغب أن يكون مديراً للوكالة. ولا أعتقد أن هذه الرواية دقيقة.. ولا تلك أيضا.. ومن ثم فإنني أطرح ما لدي من معلومات تاريخية.. لابد أنه قد يحين الوقت فيما بعد لروايتها بتفاصيل موثقة بالأوراق.. إذا جدت أمور. إن تلك الخلفية المعلوماتية مهمة للغاية في إطار قراءتنا للرؤي.. لأنها تضع تفسيراً لبعض ماورد فيها.. والخلفية تكشف مكنون بعض ما جاء في نصوص تصريحات كل من البرادعي وموسي. كان محمد البرادعي ملحقاً دبلوماسياً في الولاياتالمتحدة، حيث درس للدكتوراه في جامعة نيويورك.. وعاد إلي مصر سكرتيراً خاصاً لوزير الخارجية إسماعيل فهمي في عام 1974 .. وقتها كان موسي مستشاراً في نفس المكتب.. وكلاهما تحت إمرة مدير مكتب الوزير.. الدبلوماسي المخضرم الدكتور أسامة الباز. كان موسي يناضل من أجل أن يعثر لنفسه علي موطئ قدم في مسيرة حياته.. خاصة أن كثيراً من الدبلوماسيين كانوا يقفون ضده لأسباب تنافسية مفهومة.. في حين كان البرادعي مهيمناً من موقعه كسكرتير خاص وحامل ملفات علي عقل الوزير وعلي شئون تؤثر في مستقبل سفراء.. ومن ثم تحصل قدراً هائلاً من الضغينة ضاعفتها تصرفاته من خلال موقعه.. وقد استمر في ذلك نحو ثلاث سنوات قبل أن يغادر الوزارة مجدداً.. بعد أن استقال الوزير.. وفي حدود 1980 أصبح مسئولاً عن برنامج القانون الدولي في برنامج تابع للأمم المتحدة.. وعمل فترة في وكالة الطاقة الذرية.. وتدرج بها.. قبل أن يصبح مديراً لمكتبها في نيويورك.. وعاد ليرأس الإدارة القانونية فيها عام 1988 . موسي كان يمضي في مساره.. تنقلات دبلوماسية مختلفة.. سفيراً في الهند.. وسفيراً في الأممالمتحدة.. إلي أن أصبح وزيراً.. وفي عام 1997 كان أن بدأت تفاعلات الترشيح لمنصب مدير وكالة الطاقة الذرية.. وقتها كان سفيرنا السابق في لندن محمد شاكر قد أنهي دراسة قانونية وعلمية مستفيضة حول معاهدة منع الانتشار النووي.. وأصبح متخصصاً.. ووضع شاكر اسمه أمام موسي ليكون مرشحاً لمصر في منصب مدير وكالة الطاقة الذرية. في مثل هذه الظروف تتحسس الدول طريقها قبل أن تشرع في أن تخوض المعركة.. وقيست ردود أفعال أصحاب التأثير الدولي.. فاعترضوا علي الاسم.. وقالوا عن محمد شاكر إن شخصيته ليست مناسبة.. وإن قدراته الإدارية ضعيفة.. تماماً كما قيل فيما بعد عن أي مرشح مصري لايرضي حساباتهم.. وهذا ما قيل أيضا عن بطرس غالي حين كان مرشحاً لمنصب أمين عام الأممالمتحدة.. وما قيل عن فاروق حسني حين ترشح مديراً عاماً لليونسكو. وقيل لمصر، بالضبط كما حدث في حالات أخري، ما رأيكم لو رشحتم اسماً آخر، وفي مثل هذه الحالات يمكن أن تبتلع بعض الدول الطعم، لكن مصر لم تفعل في أي من الحالات الثلاث.. شاكر.. بطرس.. فاروق.. وأصرت علي مرشحها.. وليس سراً أن نقول: إن بعض الدول العربية في المرة الثانية لترشيح مصر لعمرو موسي قد قالت نوافق علي أن يكون الأمين العام لجامعة الدول العربية مصرياً.. ولكن ليكن دبلوماسياً آخر غير موسي.. وأصرت مصر علي مرشحها.. بينما طرح الغرب في حالة وكالة الطاقة الذرية اسم محمد البرادعي.. الموظف بالوكالة.. ولم يجد تأييداً من مصر لأن لها مرشحاً غيره.. ومن الواجب هنا أن نشير إلي أن البرادعي لم يطرح اسمه علي مصر أولاً وإنما بعد أن أعلن اسم محمد شاكر. وقتها كتب البرادعي لموسي رسمياً.. وقال له: لماذا لم تؤيدني رغم أن الغرب يساندني.. وفيما بعد الجولة الأولي سقط شاكر.. فجاء البرادعي إلي مصر.. وقال للقاهرة: رشحوني؟.. وتم بحث الأمر.. واستقرت مصر علي أنها لاتجد فيه غضاضة.. ولكن أن يسقط مرشح مصر.. فتتحول إلي ترشيح البرادعي فإن هذا يعني أن الغرب قد فرض إرادته علي القاهرة.. وقيل له بالتالي: لايمكن أن نتبني اسمك. وأنجح الغرب محمد البرادعي. وأصبح مديراً لوكالة الطاقة الذرية بعد هانز بليكس.. ولمدة فترتين قبل أن يترك موقعه قبل شهرين. وكانت علاقته في البداية سيئة بوزارة الخارجية المصرية.. وبالتحديد مع المسئول عنها عمرو موسي.. فلم يزر القاهرة.. ولم يقابل الوزير.. وبعد فترة من الوقت ذابت علناً هذه الضغينة المفترض فيها أنها غير الشخصية.. ودعا الوزير مدير الوكالة إلي إفطار عمل.. وتم تطييب خاطره وانتهي الأمر وتوالت السنوات.. إلي أن تم تكريمه من الرئيس فيما بعد بقلادة النيل حين حصل علي جائزة نوبل بالمناصفة مع الوكالة التي يديرها. غير أنه من الواضح أنه لم تزل هناك غصة لدي البرادعي بشأن موقف مصر من عملية ترشيحه.. هو نفسه عبر عن هذا في حواره مع جريدة الشروق.. وقد كتب محرر الحوار أنه (البرادعي) كان يتقاسم غرفة مع عمرو موسي.. لكن البرادعي أردف: كنت أقرب مساعد إلي إسماعيل فهمي.. ومن ثم قال في موضع آخر من الحوار: كنت موظفا في وزارة الخارجية.. وكانت لدي علاقات طيبة.. ولكن غالباً المصلحة الشخصية طغت علي ذلك كله.. قالوا حينئذ عن عدم ترشيحي إن أمريكا وأوروبا هما اللتان قامتا بترشيحي وهذا ليس صحيحا لأن المجموعة الإفريقية هي التي رشحتني. وقد يكون كلامه صحيحاً فيما يخص التصويت الثاني. حين فاز. لكنه في الجولة الأولي لم يكن مرشحاً للمجموعة الإفريقية. غير أنه لم يزل يقول: "هذا النظام (يقصد مصر) لا أدين له بأي شيء.. بل بالعكس هذا النظام عمل ضد ترشيحي". ومن الواضح في حديثه عن المصالح الشخصية التي أعاقت ترشيحه وكلامه يحتاج إلي تدقيق أن في القنوات بينه وبين موسي ما لم يمحه الزمن.. وهو يعود ليؤكد ضمنا أنه كان مرشحاً مرضياً عنه من دوائر السيطرة علي الوكالة: "أرادوا رئيسا للوكالة من العالم النامي.. ورأوا أنني الشخص المناسب.. وكان هناك توافق علي ترشيحي.. فجأة وجدت مصر تقول: إنها تريد شخصاً آخر" (لاحظ أنه لم يذكر اسم زميله محمد شاكر).. ويكمل: "اندهشت.. هذا أقل ما يقال.. وقد كتبت الجرائد في النمسا حتي إنها قالت إن ترشيح مصر لشخص آخر غير البرادعي (مرة أخري يقول شخص آخر) جاء نتيجة علاقة شخصية بين المرشح والحكومة". ويكتب محرر الحوار الأستاذ جميل مطر معلقاً علي حالة البرادعي وقت أن قال هذا الكلام: تحدث بعض الوقت عن هذه الحملة وأطرافها وشعرت بقدر من المرارة في حلقه. ظهرت هذه المرارة واضحة حين قال بصوت أعلي قليلا من الصوت الذي اعتدت عليه منذ بداية اللقاء: "فهمت للأسف أن موقف مصر كان نتيجة علاقات شخصية وكان يحز في نفسي. ولكني سمعت فيما بعد أن الرئيس مبارك قال: إنه لم يستشر في هذا الترشيح شخصياً.. ولا أستطيع أن أقول إن ما حدث ليس إلا سوء إدارة وعدم تقدير جيد للأمور". ومن ثم فإن من حقي هنا ككاتب، وأنا أعيد قراءة تلك الأمور في مواقف كل من البرادعي وموسي، أن أعتقد أن مرارة البرادعي موجهة في الأصل ضد عمرو موسي. ويمكنني أن أري في موقفه من مسألة الترشيح للرئاسة أن لها علاقة بتراث شخصي ممتد.. كما لو أنه يريد أن يقول إذا كنتم لم ترشحوني لوكالة الطاقة الذرية فقد بقيت مديراً لها فترتين وإذا كنتم قد وقفتم ضد ترشيحي فأنا قادم لكي أرأسكم وألبي ثأري الشخصي. لكن موسي تجاوز عن كل هذا (ظاهرياً).. ولم يقف عنده أو يعلق عليه.. بل أبدي نوعاً من التقدير العلني للبرادعي.. وداعب مشاعره بأن هاجم منتقديه.. ربما لكي يحمي نفسه (موسي) أيضا من المناقشة الانتقادية.. وأعتقد أن ما بينهما لم تمحه السنوات.. وأقل تبرير لهذا هو أن موسي آثر ألا يبقي البرادعي في الساحة متحدثاً وحيداً.. فسارع لأن يدلي بحوار.. وأن يناقش ما عرض علي البرادعي من مسائل.. وأن يزايد عليه.. بحيث لايكون هو الراقص الوحيد علي مسرح المرشحين المتمنعين أو المؤجلين أو غير المعلنين. ولا أعتقد أنه يمكن لموسي أن يقول شهادة إيجابية في مواقف البرادعي حين كان مديراً للوكالة بخصوص مسائل منع الانتشار النووي دولياً.. لاسيما فيما يتعلق بموضوع السر النووي المعلن لدي إسرائيل.. وكلي (شخصياً) شغف في أن أعرف رأيه في مواقف البرادعي من ملف العراق.. ولا أعتقد بدوري أن مواقفهما تتقارب فيما يتعلق بموضوع العلاقات العربية مع إسرائيل. غير أني أواصل ما بدأت في هذا المسلسل غداً. [email protected] www.abkamal.net