الديمومة علاقات كثيرة لم تدم. وأخري نشأت من عدم ودامت أطول مما كنت أتخيل. تخيفني نهاية العلاقة كما تخيفني بدايتها. وتلح علي ذهني صور كل من اختفوا من حياتي بإرادتهم وكل من تركتهم يسقطون بإرادتي. دعيهم يسقطون، يقول صديقي المتشائم. دعني أبكي وحدي، أجيبه من قاع اليأس. قلبي تتنازعه الأوهام. البدايات متشابهة، الخوف فيها محبب ومثير، خوف من سوء الاختيار، من الانزلاق في الحب، من الاعتماد. أثناء العلاقة يظهر خوف من نوع آخر، خوف من اقتراب النهاية، أو حتميتها. ماذا لو انتفت حالة الدوام واختفت صورة الوجود المستقر، وجود الصديق واستقرار العلاقة؟ ماذا لو غاب التعلق والتعود والاعتماد وغابت رموز أخري ترتبط بوجوده؟ بين الحين والحين، أستبق الأحداث وأعيش خيالاً لا يتحقق... أتخيل أن الحياة تخبيء لي صداقة جديدة لم أعشها بعد، أتلذذ بتصور مداها. أبديتها. لمجرد أن تنفي الديمومة قانون التغيير. في الحب كما في الصداقة، أكره التساؤلات الساذجة، تحليل الآخر، الاشتباه فيه بمنطق الحب أو بمنطق الغيرة أو بلا منطق. أكره الكلمات المفرغة من معناها، العارية من أية كثافة. أكره البحث في ماهية الحب والصداقة لاستخلاص القوانين العامة التي تحكم البشر. فرد في الحب وفي الصداقة، فرد وحيد مشكوك فيه علي الدوام. في مدارات الدوام كما في حلقات الذكر، أتحول لنصف وعي، نصف وجود. أتخلق وأتشكل وأتلون بلون الساعات. أعرف أني في صيرورة دائمة. مثل نبات بري يغذي بموته أرضاً جرداء، ليحيا في صورة أخري، يرحل ليعود. مثل حفنة طمي نيلي أرسو عند شاطئ الكلام تارة وأغوص في قاع السكون تارة وأطفو مع الموج الهادئ تارة ثالثة، صمت وثرثرة. في الحب أعرف أن جسدي الذي أملك مفاتيحه يصير واعياً بمحدودية الرغبة، جسدي لا يكف عن التفكير. أتكشف لذاتي وللآخر حين أريد. وأتقهقر إلي موقع مجهول من عمق نفسي السحيق...أحتمي بنفسي من نفسي، حين أريد. كلمات مقتضبة في العينين وميض وبرق ليلي، وفي الأنف استقامة. في الشفاه انكسار عند الأطراف وابتسام مفعم بالود يؤكده الذقن المكتنز في استدارة ومنابت الشعر الصامد أبداً. بعض أبيات من شعر غريب تقبع بين الأوراق المتراصة في كسل مترب. تبدو شطرات متفرقة بين الحين والحين، تستأثر بالنظر. بين وجهه وسطور الشعر مساحة صغيرة تذبذب عندها نبض قلبي. سمعته يقول أحبك في لهفة الاكتشاف والاستسلام. مال رأسي قليلاً فاحتمت الكلمات بالجانب الآخر من تجويف الرأس. لم أقل سوي كلمة واحدة. في عذوبة مصحوبة بالارتياح. الأسماء أسميه كل ليلة. وفي الصباح، أزيح عن وجهه كل الأسماء وأسأل نفسي إن كنت قد عرفته من قبل. الليل يطيل الأنف قليلاً أو يمحوه بين الخدين البارزين. تكتنز الشفاه وتزداد حمرة أو تنبسط ويزول لونها. يصبح الشعر الأسود أكثر سواداً أو أقل حسب الأسماء، والرغبة في التطفل علي وجوده. لكني أبداً لم أحفل بالرقبة التي هي مستودع الحياة، بين الرأس والكتفين. لم تكن تطول أو تقصر. ولم تكن يوماً أكثر نحافة مما هي عليه، أو أكثر سمكاً رغم تعدد وجوه الليل. لم تكن موضع تقدير من جانبي لأن علامات الوجه كانت أكثر إيحاءً. كما لم تكن للقدمين أهمية لأني أسقطتهما من ملامح رجولته الثلاثة، المثقلة بجذور الشعر الكثيف. وهكذا. ذات ليلة. بدأت بالرقبة وانتهيت بالقدمين. لأفاجئ نفسي بإحساس جديد أسميته قتل الرغبة في المهد. وكنت قد اكتشفت في الليلة السابقة أني صرت أنسي الأسماء. وأني أعرفه حقاً .. حقاً. قطرة من قطرات الغواية عندما يكون الهواء بهذا اللون - الصيف- وتقترب الساعات من نهايتها. أطل من النافذة علي شئ ما يحدث في الخارج. أحس أني فقدت شيئاً، كأني أعيش زمناً آخر، خارجي. تمر أصابعي متمهلة بين خصلات شعري، علي عنقي، علي صدري، وتتوقف عند ساقي. تتوازي ذراعي مع جسدي في حمي السأم كما تتوازي خطوط الطريق الجالسة خلف النافذة. يسقط في يدي. عندما تكون رائحة الهواء متربة، مشبعة بالصوت، تأتي من بعيد، تقبع عند عتبات جسدي وتصبح رائحتي رائحة الأشياء التي لم تحدث لي. هنا وهناك، أحرك أصابع قدمي أحرك لساني داخل حلقي الجاف، أحرك جسدي في اتجاه حافة النافذة. يمر نصفي من الفتحة الضيقة ويصمد نصفي الآخر أمام الغواية. تمتد يدي إلي كوب الماء. تتساقط بضع قطرات هاربة من تجويف الشفتين. تتبخر قبلما تمتد إليها ألسنة الأرض. أتركها تسقط بين شفتي وحافة الكوب الملساء وأشعر بلذة أن يرحل مني شئ ما، بإرادتي. أصب الماء من جديد، هذه المرة عن عمد، لعل الصيف يرحل عني. علي لساني، علي ذقني، علي صدري المفتوح، علي حافة النافذة، علي الهواء، علي الطريق الممتد هناك، تحت أهدابي المسدلة. حين أغمض عيني، يصبح النبض مثل كرة المنجمين الزجاجية. أضعها فوق صدري، وأنصت. --- في لحظة وعي خارج الزمن، عرفت أني قادرة علي المنح حين منعت، وعلي الحب حين كرهت، وعلي الاختيار حين أسقط في يدي.