ما بين شواطئ متعددة لبحر واحد تجول الكاتب محمد منسي قنديل بين الأنواع الأدبية المختلفة علي مدار مشواره الأدبي، فكتب الرواية والقصة القصيرة وأدب الرحلات والكتب الفكرية والسيناريو وغيرها، ورغم بعده عن مصر، فإن كتاباته تصب دوما في عمق تفاصيل الحياة اليومية للمصري البسيط، فشغل فترة بكتابة التاريخ ومقارنة أحداث الواقع بأحداث الماضي، مستعيدا ذكريات عربية اندثرت مع الزمن، وترك التاريخ ليراود الرواية مرة أخري عن نفسها، ليداعب بأسلوبه الروائي البسيط الوجدان المصري كمرحلة جديدة في إعادة كشف الذات، وبمناسبة صدور أحدث أعماله "وقائع عربية". ماذا كنت تحاول أن تقول في روايتك الأخيرة "يوم غائم في البر الغربي"؟ - روايتي الجديدة هي رحلة في الوجدان المصري في مطلع القرن الفائت، وهي مرحلة تعد بمثابة اكتشاف الذات، تبدأ مع بداية السنوات الأولي للاحتلال الإنجليزي لمصر، وتتواصل حتي سنوات العشرينيات، قبل هذه الفترة كان المصريون مجرد أرقام، يموتون بكثرة في أعمال السخرة وانتشار الأوبئة والأمراض، ليس لهم تمايز أو وجود فعلي، اللهم إلا صرخة أحمد عرابي وهو يقول إننا لسنا عبيدا ولسنا عقارا يورث، غير ذك كان الوالي التركي يأمر فيموت المصريون بالجملة في حروب لا يدرون عنها شيئا، في البلقان والمكسيك وحتي في جزيرة العرب والسودان، ويموت وهم يحفرون قناة لا يدرون من أين تبدأ ولا تنتهي.. ويموتون دون أن يذكر أحد أسماءهم أو مكان قبورهم، ولكن في الفترة التي أتعرض لها في روايتي، بدءا يستيقظون ويدافعون عن ذواتهم الخاصة، وأصبح لهم وجوه في المرآة، وأسماء في شهادات الميلاد، مع الأسف هذه الفترة لم تستمر طويلا وعدنا كما هو الحال اليوم، نموت "فطيس" في حوادث القطارات والعبارات، والحرائق وانهيار الصخور، والغرق هجرة بحثا عن الرزق، مرة أخري فقدنا تمايزنا كأفراد وعدنا إلي أرقام تموت بكثافة ودون مبرر. كثيرون يرون روايتك الأولي "انكسار الروح" أفضل ما كتبت، هل توافقهم علي ذلك؟ - لا أنكر اعتزازي بانكسار الروح، فالرواية الأولي تحمل دائما شيئا من سيرة الكاتب الذاتية، وبالتالي تصبح أكثر قربا إلي وجدانه، وهي أيضا قصة حب في زمن مضطرب تموت فيه العواطف وتغتال فيه البراءة، من حسن الحظ أن صديقي الروائي مكاوي سعيد قد وقع في غرام هذه الرواية أيضا، وهو يستعد لنشرها قريبا في طبعة ثانية في "الدار"، وهي فرصة جيدة حتي تعاد قراءتها من جديد، خاصة أنني أعدت تنقيح طبعتها القديمة. تردد أن "قمر علي سمرقند" تعرضت للاختصار عند نشرها، فما السبب وراء ذلك؟ - خرجت الرواية ناقصة الثلث تقريبا في طبعة دار الهلال، وقد تعامل معها المشرف علي النشر تعامل الجزارين، ولكن من حسن الحظ أنها صدرت كاملة عن دار "ميرت" للنشر، وفازت بجائزة ساويرس للآداب عام 2006، وهي أيضا نفس الطبعة التي اعتمدت عليها الجامعة الأمريكية في ترجمة الرواية إلي اللغة الإنجليزية، وأنا أعتز بهذه الترجمة كثيرا، ليس فقط لأن الكتاب صدر بصورة جميلة، ولكن أيضا لأن الترجمة كانت علي مستوي أدبي راق، وقامت به المستشرقة الأمريكية جنيفر بترسون التي استطاعت النفاذ إلي روح النص. تركيزك في كتابك الأخير "وقائع عربية" علي قيم ومبادئ سامية هل يعني تأكيدا علي وجودها أم افتقادها؟ - كتاب "وقائع عربية" نشرت طبعته الثانية في دار ليلي للنشر، وهو واحد من سلسلة من القصص التاريخية التي أعشق كتابتها كثيرا، ولي فيها أربعة كتب، نشرت ثلاثة منها والرابع في طور الإعداد، وهذا الكتاب بالذات يحتوي علي لحظات وومضات مركزة من التاريخ العربي الممتد، ولكنه التاريخ الصغير، تاريخ الناس العاديين الذين تلتهمهم محارق التاريخ دون أن يذكرهم أحد، بينما لا تتوقف عجلة التاريخ إلا عند الملوك والقادة الكبار، أنه محاولة لرؤية الحاضر من خلال منظاره المادي، ربما تكون الصورة أكثر عمقا بفعل حركة الزمان. تجولت بين العديد من الأنواع الأدبية، فأيهما كان الأقرب إليك؟ - جربت الرواية، والقصة القصيرة، ولي أكثر من عشرة كتب في أدب الطفل، وكتبت عشرات الرحلات علي صفحات مجلة "العربي" حيث كنت أعمل في السنوات الماضية، ولكن ما يثير إحباطي حقا هو تجربتي مع السينما، لقد تم تقديم فيلم واحد من تأليفي هو "آيس كريم في جليم"، وأخذ فيلم "فتاة من إسرائيل" عن رواية قصيرة لي، غير ذلك لا شيء، رغم أنني كتبت الكثير من الأفلام وتعاقدت علي البعض منها بالفعل، علي سبيل المثال هناك سيناريو "علي الزيبق" الذي تعاقدت فيه مع الشركة العربية للإنتاج السينمائي التي تديرها إسعاد يونس، وكان مرشحا لإخراجه مخرج كبير هو خيري بشارة وبطولة أحمد السقا، ولكن الشركة تراجعت عن إنتاجه بعد أن كانت متحمسة، وهناك فيلم آخر تعاقدت به مع شركة جود نيوز بعنوان "سلطان جمالك"، وهي شركة غريبة حقا، فهي شركة مثقفة لا تحكمها الأسس التجارية فقط، يديرها الإعلامي الكبير عماد أديب ويشرف علي الجانب السينمائي منها مخرج موهوب هو عادل أديب، وقد بدأت بداية واعدة بأنها ستقدم سينما مختلفة، وبالفعل قدمت عمارة يعقوبيان، وليلة البيبي دول، ثم فجأة تحولت للأفلام التجارية وقدمت أفلاما سيئة لعادل إمام ومحمد هنيدي وهي أفلام يمكن لأي شركة متواضعة أن تقدمها، لا أدري ماذا حدث لهذه الشركة لمشروعها الطموح، وما هو مصير فيلمي الذي دفعوا فيه نقودا ومازال مركونا في أدراجهم، وهناك سيناريو ثالث تعاقدت فيه مع شركة بركة بعنوان "نوح يواجه الطوفان" وكان المخرج محمد ياسين متحمس لإخراجه، ولكن حماسه تبخر فجأة، هذه هي المرة الأولي التي أتحدث فيها عن تجربتي الفاشلة في السينما ومناخها الطارد، ولا أدري إن كان هناك أدباء مثلي قد حاولوا اقتحام هذا المجال أم لا، ولكنها ظروف العمل فيه تعوق محاولة إدخال أي أفكار جديد تخالف ذلك التيار الذي يغمر السينما الآن والذي يعتمد في أساسه علي الاقتباس والسرقة من السينما الأمريكية. ماذا عن أعمالك المقبلة وهل تنوي التركيز علي نوع أدبي بعينه؟ - نعم، أنوي أن أركز علي كتابة الرواية، وأن أكف عن المغامرات الفاشلة ومراودة الأنواع الأدبية الأخري عن نفسها بحيث أكف عن الدوران واجد مداري الذي أستقر علي أرضه فلا أطير ثانية.