في مثل هذا اليوم ولد الكاتب الإسباني سير فانتس الذي لا يجهل أحد رائعته التي يؤرخ بها لميلاد شكل أدبي جديد: دون كيشوت، الرواية الرائدة البديعة ذائعة الصيت ليس في دليل يفوق نجاحها من أنها معروفة لمن لم يقرأ فيها صفحة واحدة، مثلها في ذلك مثل هاملت، وشكسبير، والإخوة كارامازوف لفيدر دوستويوفسكي، وثلاثية نجيب محفوظ. تقترن الشخصية الروائية الخالدة بأولئك الذين لا يتقنون إلا المعارك الوهمية، مسلحين بسيوف خشبية متوكئين علي أحلام اليقظة التي تهيئ لهم أنهم أبطال صناديد يترقب العالم كله صدي فتوحاتهم ونضالاتهم. ما أكثر الذين يشبهون دون كيشوت في واقعنا العربي المعاصر، ويخوضون حروبهم بالخطب العصماء والمقالات المسجوعة البليغة والشعارات الزاعقة والتحليلات الغرائبية التي تنم عن خيال مريض. آخر هؤلاء الصناديد قاض لا يفصله عن سن المعاش إلا شهور قلائل، وإذا به يعلن عن استقالته في صحيفة يومية، متصورا أنه بذلك الإعلان يفجر ثورة شعبية وتتلقف الصحيفة كرته الطائشة، فتوالي المتابعة والسؤال وتصنع هالة كاذبة حول الاستقالة، ويهيئ لهم الخيال أنهم يقودون الثورة بالفعل، وأن حناجر الملايين تهتف للقاضي الذي لا تروقه الأحوال ولم يكتشف حقيقة المأزق الوطني إلا قبل شهور في بلوغ سن التقاعد وهنا المفاجأة التي تقود إلي الكوميديا السوداء! كان دون كيشوت وهذا سر تفرده، حسن النية مثل الملايين من البشر العاديين، أما أشباهه من المعاصرين فهم سيئو النية، يبحثون عن الدعاية والرواج الإعلامي ويتشبثون بدور وهمي في معارك لا شاهد عليها أو دليل، فهل سمع أحد من قبل عن موظف عام يقدم استقالته في القهوة أو النادي؟! سيوف خشبية مشهرة في مواجهة الهواء، وإذا كان العبقري سرفانتس هو مؤلف دون كيشوت فإن صحف الإثارة والفوضي التي ترفع الشعارات الليبرالية هي مؤلفة ومشجعة بعض أنصاف المواهب الذين لا يسعفهم الخيال بالكثير، فتتولي الصحيفة التعيسة مهمة التبشير بخزعبلاتهم ونصوصهم الرديئة!