ترددت أنباء مختلفة عن احتمالات أن يقوم أمين السياسات بزيارة إلي النوبة قبل أيام، الأنباء كان مصدرها عدداً من أندية النوبيين في القاهرة، وتبين لي وقتها أن هناك تفكيراً من هذا النوع في أروقة الحزب، وأن أمانة السياسات تدرس ذلك، ولكن الزيارة تأجلت إلي وقت آخر، وكان هذا الوقت هو يوم الاثنين الماضي، حيث سافر أرفع مسئول حزبي إلي أبعد نقطة في مصر، مركز نصر النوبة، سبعين كيلومتراً جنوبأسوان. ما بين التأجيل والتفعيل، لا شك كان هناك تفكير، فأمين السياسات يتجول في مناطق كثيرة في مصر، لأسباب مفهومة، أو كما قال بوضوح معبراً عن هذه الحالة "إحنا بنلف كتير"، ولكن الصخب الذي يصاحب الحديث عن النوبة، لا سيما من بين بعض الأصوات الخارجية التي طمعت في أن تجد في النوبة "صيدا ثمينا لدعايات غير مصرية"، فرض تحدياً أكيداً علي هذه الجولة، إذ ما هي الرسالة التي سوف تظهر منها، وهل تكون الجولة دعاية للدعايات، أم درءاً لنزاعات وتوجهات، وإعادة صياغة المشكلات المعترف بها في جنوب مصر؟ وعلي قدر تفاهة ما تردده الدعايات الخارجية، فإن مثل هذا التحرك السياسي لأمين السياسات بدا كما لو أنه سيرُ في حقل الأشواك، لأن التفسيرات قد تتعدد، والتأويلات قد تتنوع، وفي نفس الوقت فإن ترك هؤلاء المصريين، بدون أن يسمعهم حزب الأغلبية بشكل مباشر عبر قيادات مختلفة، هو أمر غير حميد، ومن ثم كان القرار -الذي قرأت معناه- وهو أن تتم الزيارة، وأن يكون حوار صريح، وواضح، يعبر عن منطلقات وطنية ثابتة، ويؤكد حلول المشكلات. ومن المؤكد أنها كانت مهمة صعبة نوعاً ما، فإذا كانت هناك مشكلات، فإن تلك ليست معضلة، ولكن الأشواك حولها مردها أن النوبيين، أهلنا في الجنوب، قد عبأتهم السنوات بما يمكن أن نسميه غصة، رواها أولئك الذين يتكلمون عن "صحوة نوبية"، ويغطون مشكلات تنموية بأردية سياسية وأحاديث عرقية، ولكن المؤكد كذلك أن هذا المناخ تم تجاوزه في لحظات بمجرد بدء الزيارة لعدة أسباب: 1- الروح التي يتمتع بها أهل النوبة أنفسهم، فعلي قدر معاناتهم الممتدة منذ زمن، لأسباب تاريخية لا علاقة لها بالعصر الحالي، فإن لديهم نبعاً من الطيبة، وروافد من البساطة، وبحاراً من الإخلاص للبلد، تفيض جميعاً فوق اعتزازهم بخصوصيتهم في إطار تنوع الوطن، هؤلاء السلسون، الهادئون، الوادعون، تنزوي مشكلاتهم علي الفور بمجرد أن يبين لهم أن هناك من يسمعهم، ويعرف مما يعانون، ولا يمكن في هذا السياق تخيل كيف يقدرون أن الرئيس مهتم بمشكلاتهم التنموية، وكيف يكررون جميعا امتنانهم لأنه تذكرهم حين كان في جولة بالدقهلية، وسأل: ماذا فعلتم في مسألة مساكن أهلنا في النوبة؟ 2- الإطار الحزبي الفعال، القادر علي استيعاب تموجات المجتمع، بالتعاون من الأجهزة المحلية والمختلفة، فعلي الرغم من أن للنوبيين -بخلاف غيرهم- نوافذ عديدة للتعبير، تتمثل في تواجدهم في أحزاب مختلفة ومنها التجمع والوفد، وفي أندية كثيرة تتحدث باسمهم، فإن القدرة التي يتمتع بها حزب الأغلبية في مناطق النوبة، أقصي جنوب مصر، وفرت إطاراً تنظيمياً جدياً لاستيعاب النقاش ومجرياته، وأكدت مدي التصاق الحزب بما يدور علي أرض الواقع. 3- إن الجولة التي قام بها أمين السياسات أمس الأول في النوبة لم تأت لإعلان وعود، وإنما بعد أن بدأت بالفعل عملية حل المشكلات علي أرض الواقع، فلمس النوبي العادي كيف يتجسد الإنجاز من حوله، أي أن النقاش الذي دار لم يكن يبدأ من نقطة الصفر، وإنما من مراحل متقدمة للغاية، وعلي هذا الأساس فإن الحوار كان يهدف إلي التجويد ودرء السلبيات المعترف بها وليس التفكير في حل المشكلات. 4- إن أمين السياسات كان -كعادته- رحب الصدر، يطلب كل الحرية في النقاش، وحتي حين بدا له أن الأصوات النوبية بدت منظمة ومرتبة أكثر من اللازم، بحيث يعطي هذا الانطباع بأن الحوار قد يكون مقيدا، فإنه طلب أن يستمع إلي الجميع، وأن يقول كل من يريد ما لديه، فكان أن تحدثت الغالبية، وقالت كل شيء، فتدرجت المشكلات في لحظات الاستماع، بدءاً من الحديث عن حل مشكلة الهجرة إلي المطالبة ببناء مركز شباب في قرية أبوحنظل! المدخل إلي النقاش وضعه جمال مبارك من اللحظة الأولي.. وقد مثلته مجموعة من العبارات ذات المغزي: "قوتنا في تنوعنا، كلنا مصريون تحت علم واحد، نواجه مشكلاتنا في جميع أنحاء مصر، وكما أن لأهل بحري والصعيد وسيناء مشكلاتهم فإن لأهل النوبة مشكلاتهم، وكلها مشكلات تنمية، أهل النوبة في وجدان الرئيس، وقد عبر عن ذلك أكثر من مرة وفي مناسبات مختلفة". في هذا الإطار كان الحوار مثمراً، ومفيداً، والأهم أنه مثل صفعة لكل الأصوات التي أرادت أن تجعل من النوبة موضوعاً وقضية، خارج سياق جميع موضوعات ومناقشات مصر. ونكمل غداً.