تشير الدراسات العلمية المحققة، في وظائف أعضاء الجسم، أثناء مراحل التجويع، إلي يسرْ الصيام الإسلامي وسهولته، تحقيقا لقوله تعالي: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185) وفي تفسير الآية قال الرازي: إن الله تعالي أوجب الصوم علي سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل علي المريض ولا علي المسافر. كما يتجلي يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية، وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة من طلوع الفجر إلي غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، ويعتبر الصيام الإسلامي بهذا تغييراً لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام لمدد طويلة أو حتي لمدة يوم وليلة، تيسيراً وتخفيفاً علي أمة خاتم الانبياء وقد تجلي هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر. فقد قسمت المراجع الطبية التجويع إلي ثلاث مراحل: مرحلة مبكرة، ومتوسطة، وطويلة الاجل وتقع المرحلة المبكرة بعد نهاية فترة امتصاص آخر وجبة (أي بعد حوالي 5 ساعات من الأكل) وحتي نهاية فترة ما بعد الامتصاص والتي تتراوح مدتها حوالي 12، ساعة وقد تمتد إلي 40 ساعة عند بعض العلماء في هذه الفترة يقع الصيام الإسلامي كما يقع في فترة امتصاص الغذاء وهذه الفترة من الانقطاع عن الطعام آمنة تماماً بالمقاييس العلمية، فالجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ، والدهون لا تتأكسد بالقدر الذي يولد أجساماً كيتونية بالدم أثناء هذه الفترة، كمالا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة بالقدر الذي يحدث خللاً في التوازن النتروجيني في الجسم. مما حدا ببعض العلماء أن يسقط فترة ما بعد الامتصاص من مراحل التجويع أصلاً، وهذه الحقيقة تجعل الصيام الإسلامي متفرداً في يسره وسهولته عكس مراحل التجويع الاخري. من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12 إلي 16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص التمثيل الغذائي بتوازن، فتنشط آلية تحلل النشا المخزن بالكبد ، وأكسدة الدهون، وتحللها وتحلل البروتين وتكوين الجلوكوز الجديد منه ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي وظيفة من وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجساماً كيتونية تضر بالجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني، ويعتمد المخ البشري وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي علي الجلوكوز وحده للحصول علي الطاقة. بينما التجويع أو الصيام الطبي - القصير والطويل منه - لا يقف عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتي يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم. ويعتبر الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائياً فريداً إذ يشتمل علي مرحلتي البناء والهدم فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات المهمة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة، والتي استهلكت في إنتاج الطاقة، وبعد فترة امتصاص وجبة السحور يبدأ الهدم فيتحلل المخزون الغذائي من النشا المخزن بالكبد والدهون ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام. لذلك كان تأكيد النبي وحثه علي ضرورة تناول وجبة السحور، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال رسول الله "تسحروا فإن في السحور بركة" متفق عليه. وذلك لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام، وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلي أقل زمن ممكن، كما أن النبي حث علي تعجيل الفطر حيث قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه، وتأخير السحور، فقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "تسحرنا مع رسول الله ثم قمنا إلي الصلاة، قيل: كم كان بينهما؟ قال خمسون آية". (متفق عليه) اي حوالي 15 دقيقة. وهذا من شأنه تقليص فترة الصيام أيضاً إلي أقل حد ممكن، حتي لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص ما أمكن، وبالتالي فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطاً نفسياً ضاراً علي الجسم البشري بحال من الأحوال. وبناء علي هذه الحقائق يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أنثاء الصيام هو عمليات الهضم والامتصاص وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية، وتحصل علي جميع احتياجاتها اللازمة لها، من هذا المخزون بعد تحلله، والذي يعتبر هضماً داخل الخلية، فيتحول النشا المخزن بالكبد إلي سكر الجلوكوز، والدهون والبروتينات إلي أحماض دهنية وأحماض أمينية، بفعل شبكة معقدة من الإنزيمات، والتفاعلات الكيمائية الحيوية الدقيقة، والتي يقف الإنسان أمامها مشدوهاً معترفاً بجلال الله وعلمه، وعظيم قدرته وإحكام صنعه. فمن أخبر محمداً أن في الصيام وقاية للإنسان من أضرار نفسية وجسدية؟ ومن أخبره أن فيه منافع وفوائد يجنيها الأصحاء؟ بل من يستطيع الصيام من المرضي وأصحاب الأعذار !! ومن أخبره بأن الصيام سهل ميسور لا يضر بالجسم ولا يجهد النفس؟ ومن أطلعه علي أن كثرة الصوم تثبط الرغبة الجنسية؟ وتخفف من حدتها وثورتها خصوصاً عند الشباب!! فيصير الشاب آمناً من الاضطرابات الغريزية والنفسية، ومحصناً ضد الانحرافات السلوكية!! وخصوصاً أنه نشأ في بيئة لا تعرف هذا الصيام ولا تمارسه. أستاذ بالمركز القومي للبحوث عضو المجمع العلمي لبحوث الإعجاز العلمي للقرآن والسنة