جون بادو كان سفيرا للولايات المتحدة خلال عهد الرئيس كينيدي في المدة من 1961 إلي 1964 إلي الجمهورية العربية المتحدة، ومن لا يتذكر الجمهورية العربية المتحدة فهي كانت تجمع مصر وسوريا حتي انفصال سوريا عام 1961 ولكن مصر استمرت في استخدام اسم الجمهورية العربية المتحدة. جون بادو كما عرفناه شخص هاديء مثقف غير متعالي. وقد جلس عام 1969 في مكتبة كيندي ليروي خلال عدة ساعات ذكرياته عن فترة عمله في القاهرة من حيث العلاقات مع الرئيس عبدالناصر وحرب اليمن والعلاقات مع الأردن ومحاولة العراق غزو الكويت في عهد عبدالكريم قاسم، وكذلك ما يتعلق باللوبي الإسرائيلي في واشنطون الذي كان نشطا في ذلك الوقت جدا ضد القاهرة وعمل علي اقناع إدارة الرئيس كينيدي بالتخلي عن سياسة عدم تقديم أسلحة إلي الشرق الأوسط، إلي إرسال هذه الأسلحة بكميات ضخمة لإسرائيل، وقد اخترت جون بادو لأنه عاصر فترة من أهم الفترات في العلاقات المصرية الأمريكية وهو يعرف المصريين ويعرفونه. الرؤساء الأمريكيون في النصف قرن الأخير. اتخذوا عادة إنشاء مكتبات باسمهم تجمع أوراقهم ومذكراتهم وتعليقاتهم علي الأحداث التي وقعت خلال فترة توليهم الرئاسة، وكذلك مراسلاتهم مع القادة الأجانب الخ.. وقد حرصت مكتبة كيندي - أعظم رؤساء الولاياتالمتحدة في رأيي وأشجعهم - علي إجراء حوارات مع سفراء الولاياتالمتحدة خلال عهد كينيدي إلي أهم دول العالم، القاهرة في ذلك الوقت كانت عاصمة دولة من أهم الدولة. يتذكر بادو كيف قابل كينيدي لأول مرة فيقول إن ذلك كان قبل مغادرته إلي القاهرة ولا تذكر التاريخ بالضبط ولكنه يعتقد أنه كان في النصف الثاني من يونيو 1961. استغرقت المقابلة أربعين دقيقة من أجل تلقي تعليمات الرئيس ولمعرفة كيف يفكر بالنسبة لمصر ورئيسها عبدالناصر، قال إنه لا يعرف لماذا جذب اسمه انتباه الرئيس ليعين سفيرا في القاهرة ومن رشحه لهذا المنصب وإن كان يشك في أن ذلك يرجع إلي دين راسك وزير الخارجية في ذلك الوقت الذي زمله كعضو في المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية وكذلك مجلس الشئون الخارجية في نيويورك وهو مماثل للمجلس المصري للشئون الخارجية. لم يكن بادو دبلوماسيا محترفا عمل في الخارجية الأمريكية تنقل بين البعثات الأمريكية، ولذلك شعر ببعض الحرج والفضول لماذا تم اختياره. عندما تحدث إلي الدبلوماسيين المحترفين في واشنطون أخبروه أن من عادة أي رئيس أمريكي منتخب أن يعين ربع سفراء أمريكا من خارج السلك الدبلوماسي الأمريكي وهو تقليد مازال متبعًا حتي اليوم واستخدمه الرئيس أوباما لمكافأة أصدقائه ممن ساعدوه في حملته الانتخابية سواء بالتبرعات المالية أو بتأييدهم المعنوي، ذا التقليد بالطبع يلقي عدم موافقة بل وامتعاض الدبلوماسيين المحترفين، وإن كان الرئيس الجديد يقول في كل مرة إنه يريد مجرد ضخ دماء جديدة. ولكن بادو يقول إن الرئيس كينيدي تعدي مجرد هذا التبرير إذ أن ذهب إلي أبعد من ذلك فقد حدد بنفسه عدة دول شعر أن السياسة الأمريكية قد ابتعدت عنها أو أن لواشنطون مشاكل غير عادية معها، ولذلك أراد أن يعين سفراء ممن لديهم خلفية وخبرة معينة في التعامل مع هذه الدولة أو تلك، ولذلك أرسل مثلا أو دين راتشهاور إلي اليابان وكان يانج إلي تايلاند والأخير كان قبل ذلك رئيسا لشركة ستاندرارد أوبل الأمريكية للبترول في تايلاند سابقا، وأرسل شخصية شهيرة هي جون جالبريث وهو اقتصادي مرموق إلي الهند وأرسله هو - أي بادو - إلي مصر. قد أبلغ أن ذلك يعد استثناء جديدا من مجرد التعينيات الروتينية التي يقوم بها الرئيس في مناصب سفراء أمريكا في الخارج.. سأله محاور عن رأيه في سياسة الرئيس الأمريكي السابق الذي سبق كينيدي ايزنهاور فيما يتعلق بأزمة السويس وهو الاسم الذي يطلقه الغربيون علي العدوان الثلاثي من جانب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر عام 1956، أو فيما يتعلق بخطاب أيزنهاور حول مشكلة الجزائر التي كانت تخوض حربًا تحريرية ضد الاستعمار الفرنسي في ذلك الوقت وتلقي المجاهدون الجزائريون مساعدات عسكرية وسياسة ملموسة من مصر خلال عهد الرئيس جمال عبدالناصر، أجاب بادو عن هذا السؤال بالقول أنه أيد سياسات ايزنهاور وأن لم يخف أعجابه بجون فوستر دالاس وزير خارجية ايزنهاور الذي لعب الدور الرئيسي في تحديد السياسة الأمريكية في ذلك الوقت ولكنه يقول إن ايزنهاور لعب دورًا مهما في وقف الحرب ضد مصر. في مقابلة بادو مع كينيدي سأله عن نواياه بالنسبة للشرق الأوسط لأنه إذا كانت مجرد استمرار للسياسات السابقة التي استغرقت خمسة عشر عاما أي منذ نهاية الحرب العالمية، فإنه يعتقد أنه لا يريد أن يخدم كممثل لأمريكا في مصر، أجاب كينيدي أنه بصراحة لا يعرف كيف ستكون سياسته، ولكن ما يعرفه هو أنه يرغب في اتباع سياسة جديدة وغير منحازة بصفة عامة في هذا الشأن، ويقول بادو إن هذا الرد كان كافيا لاقناعه بتولي منصب سفير أمريكا في القاهرة.. سئل بادو أن يعلق علي المقترحات العديدة التي قدمها كينيدي عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكي فيما يتعلق بالشرق الأوسط خاصة عامي 1957 و1958، أجاب بادو أنه كان يعمل خلال هذه الفترة خارج الولاياتالمتحدة حيث كان رئيسا لمؤسسة الشرق الأدني ولم يكن يتابع عن كثب السياسة الأمريكية. سمع بادو أول مرة بموضوع تعيينه في القاهرة عندما عاد من رحلة طويلة إلي الشرق الأوسط حيث أخبرته زوجته أن واشنطون تحاول الاتصال به أكثر من مرة ويجب عليه الاتصال برقم تليفون معين. رد عليه أحد موظفي الخارجية الأمريكية الذي اكتشف أنه كان في صغره يلعب مع أطفاله هو من الأشخاص الموهوبين الذين اختارتهم إدارة كينيدي الجديدة، سافر إلي واشنطون حيث قابل صديقه القديم شيستر بولز وكيل الخارجية الذي أخبره بنبأ اختياره من قبل الرئيس كسفير في القاهرة، ونفي بادو أن يكون قد شعر بأي معارضة من جانب رجال الخارجية علي تعيينه. كان بادو عام 1948 عندما سارعت واشنطون خلال عهد الرئيس ترومان بالاعتراف بإسرائيل بسرعة غير عادية، رئيسا للجامعة الأمريكيةبالقاهرة، ويقول إنه وغيره من المواطنين الأمريكيين في مصر أرسلوا برقية احتجاج إلي الرئيس ترومان علي سرعة اعتراف الولاياتالمتحدة بإسرائيل باعتبارها خطوة ليست في صالح المصالح الأمريكية، وأن ذلك لأن يكن رأيا مؤيدا للعرب بقدر ما كان مؤيدا لمصالح أمريكا، قال إنه كان واثقا عندما رشح سفيرا بالقاهرة أن يقوم أحد - من الموالين لإسرائيل - بنبش هذه الواقعة واستخدامها ضده عند بحث مجلس الشيوخ هذا التعيين، إذ في النظام الأمريكي يتوجب علي المجلس أن يوافق علي ترشيحات الرئيس بعد جلسة استجواب مطولة مع المرشح، يضيف أنه لم يكن لديه شيء يخجل منه في هذا الصدد، لكن أعضاء المجلس لم يثيروا هذه الواقعة. والشيء الوحيد الذي يتذكره هو كيف أن السناتور فولبرايت رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس ومن أعظم أعضائه عبر التاريخ في رأيي المتواضع، والذي كان شخصا ذا مصداقية كبيرة وعلي اسمه توجد الآن في مصر مؤسسة فولبريات الذي استجوبه مطولا حتي استعاد موضوع رسالة الاحتجاج التي أرسلت إلي ترومان، وللغرابة من أجل أن يعرف عما إذا كان مواليا للصهيونية أم لا، لأنه في هذه الحالة فلن يوافق علي ترشيحه سفيرا لمصر، فولبرايت للتاريخ كان من الشخصيات التي لم يستطع اللوبي الإسرائيلي الصهيوني التأثير عليها، ويقول بادو إنه خلال خدمته في القاهرة تلقي كل دعم من الخارجية والوزارات الأمريكية الأخري أكثر من اللازم وحتي من جانب الرئيس كينيدي نفسه، وكما حصل موافقة علي كل الموظفين الذين طلب نقلهم للعمل معه بالقاهرة. في الحلقة المقبلة نري كيف كانت بداية بادو عقب وصوله إلي القاهرة.