الأحداث التي شهدتها الكنيسة القبطية الارثوذكسية مؤخراً والمتعلقة بقضية خلافة البابا، كشفت عن واقع يتهدد الكنيسة المؤسسة، ويكشف عن حاجتها لعمل تنظيمي مُجهِد يتجاوز الأفراد والتكتلات، ويتطلب الخروج من تأثير اللحظة، وإسقاطها علي شخوص بعينها، وكنا كتجمع علماني قبطي قد أشرنا إليها قبلاً، لذلك لم نستغرب ما حدث وإن كنا قد تعجبنا لتعجل الأطراف المتناحرة في تفجيرها ربما قبل أوانها، وقد يكون هذا في صالح ضبط مسيرة الكنيسة في وجود قداسة البابا شنودة الثالث الذي يتحمل مسئولية إصلاح ما أفسده هؤلاء. وأذكر يوماً التقيت فيه بكاتب وكنت أخطو خطواتي الأولي في عالم الصحافة، وجدته عابساً وإذ به يسألني: ماذا يحدث عندكم؟، كان يقصد الكنيسة التي كانت وقتها تشهد موجة عاتية من الملاحقات بحق بعض الكهنة والخدام، وتوالت فيها قرارات الإبعاد، بغير محاكمة أو مواجهة، كان ابرزها قضية الأب الراهب أغاثون كاهن كنيسة أبي سيفين بمصر القديمة، وأزمة القس الراحل ابراهيم عبد السيد قبل رحيله بسنوات، وكانت الأيدي المحرضة ضدهما هم نفس الأطراف التي تدير معركة الخلافة اليوم، حاولت أن أجد تبريراً لما يحدث لكنني كنت كالمحامي الذي يترافع في قضية خاسرة، لم يدعني اواصل فقال بأسي: شوف احنا كنا عندما نغرق في أخبار الفساد في المجتمع كنا نقول لأنفسنا، ما زال هناك حصن لم يضربه الفساد بعد وهو الكنيسة، فيبقي أمل الإصلاح قائماً، أما عندما يضرب هذا الحصن فماذا نقول أو نفعل، واستطرد: لا يبقي أمامنا إلا أن نهج من البلد !! كانت كلماته صادمة لكنها كانت محذرة. ولعلنا نتفق علي أن الكنيسة بحاجة ملحة لوضع مجموعة قانونية موثقة ومكتوبة أسوة بالكنائس التقليدية المناظرة التي سبقتنا الي هذا، في ضوء المستجدات التي طرأت علي المجتمع الكنسي والعالم، والتغيرات التي ألمت بالعلاقات البينية فيهما، والمهام الثقيلة المنوطة بالكنيسة باعتبارها سفينة النجاة في بحر العالم الذي وقع في أسر المادية والصراعات والإلحاد العلني والمستتر، ويأتي علي رأس هذه المجموعة القانونية وفق متطلبات اللحظة قانون اختيار البابا البطريرك، وتحديداً بعد الوهج الذي له بفعل ثقل وتجربة البابا شنودة الثالث، حتي اصبح محل تطلع كثيرين ممن لا يملكون مقومات الجلوس علي الكرسي البابوي، لكنهم مسلحون بآليات ضاغطة ويلعبون بتوازنات مجتمعية وسياسية في غياب وعي جمعي بخطورة سعيهم . وبعيداً عن النصوص الثابتة التي تحتم استبعاد الأساقفة ايبارشية وعام والمطارنة والتي نشير اليها فقط ومنها قوانين الرسل (قانون 14) والمجامع المقدس : نقية (325م) قانون15، أنطاكية (341م) قانون 21، سرديكا (344م) القانون الأول ، المجمع المقدس للكنيسة القبطية (1865) منعت تولية أسقف لمنصب الأب البطريرك ، والأخير يقول (لا نسلم ولا نسمح قط للكهنة وشعب الكرازة المرقسية بحل وتعدي هذه الحدود الأبوية وكل من يطلب هذه الرتبة من الأساقفة أو المطارنة أصحاب الكراسي أو سعي فيها أو رضي بها أو أحد سعي لها في شأن يطلبونه لها كاهناً كان أو رئيس كهنة أو علمانياً يكون محروماً) ، نقول بأن الصراع بين الآباء الأساقفة لن تنحصر آثاره في دائرة الترشيح والانتخابات بكل ما تحمله من آثار قد تتماس مع السمعة والشرف والعرض، بل تمتد الي الدخول في سلسلة ممتدة من تصفية الحسابات بين الفائز وغيره من الأطراف الخاسرة، لسنوات وعقود، وتتفاقم الأزمة في وجود إعلام متعطش لنهش جسد الكنيسة وتعريته. لذلك نهيب بقداسة البابا شنودة الثالث بحكم وعيه لأبعاد الصراع بما يتجاوز المعلن، وبحكم خبرته وتجربته الشخصية، وبحكم وضعيته المؤثرة والنافذة، أن يبادر اليوم لا غداً الي تشكيل لجنة محايدة من الاكليروس والمدنيين والرهبان من ذوي الصلة بالشأن القانوني الكنسي وتكليفها بوضع قانون جديد وليس مجرد لائحة يعالج الأخطاء التي تحويها لائحة 57 ، في محاور : سن المرشح ومدة رهبنته، ورتبته الكهنوتية وحسم مشروعية ترشح الاساقفة والمطارنة، وقانونية القرعة التي تعقب الاقتراع، والمهدرة لقيمة الانتخاب، وحتي نغلق الأبواب في وجه التدخلات الخارجية الضاغطة علي الكنيسة لخدمة أجندتها لابد أن تكون اجتماعات اللجنة علنية وشفافة، خاصة بعد أن تعددت أوجه وأبعاد وثقل الكرسي البابوي لتتماس مع السياسة والمجتمع والعالم . وفي غير مل نكرر استعداد التجمع العلماني لإمداد المجمع المقدس وقداسة البابا واللجنة المقترحة بكل ما لدينا من أوراق بحثية متعلقة بهذا الأمر وبمقترح المشروع الذي اعددناه قبلاً بشأن نظام انتخاب البابا البطريرك. وفي ظني أن المسئولية التاريخية تقع وبغير مواربة علي قداسة البابا التي تحتم التخلي عن سياسة التوازنات والترضية لكل الأطراف فلم يعد أمامنا الكثير من الوقت لنهدره في هذا. ويشترك في المسئولية الآباء الاساقفة والمطارنة وهي لو يعلمون ثقيلة، ولعلهم يدركون أن حكم التاريخ لن يأخذ بالوجوه ولن يقبل بتبريرات أو تخوفات وهو ما أكده قداسة البابا قبلاً وقد اقتبسته ليصبح مقدمة لكتاب (العلمانيون والكنيسة) ويقول فيه : الله يأمرنا أحياناً أن نتكلم ، فيقول في سفر أرمياء النبي : "والذي معه كلمتي، فليتكلم بكلمتي بالحق "(أر 13: 28) .وقد قال الرب لبولس الرسول :لا تخف بل تكلم ولا تسكت(أع 18: 9و10) . وقد أرسل الله عبده يوحنا المعمدان صوتاً يصرخ في البرية :"أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة" (مر1: 3) .وقد تكلم يوحنا المعمدان كلاماً شديداً جداً، ولكن الكلام كان من الله. وأمر الله موسي أن يتكلم بكلمة الحق، فلما طلب إعفاءه من هذه المهمة معتذراً بأنه ليس صاحب كلام، أصر الله علي أمره وقال لموسي :"اذهب، وأنا أكون مع فمك أٌعلمك ما تتكلم به "(خر12:4).إن الله لا يكلم الناس مباشرة، إنما عن طريق أولاده . هو يريدنا أن نعلن وصاياه للناس . إن الله لم يذهب بنفسه إلي هيرودس يقول له "لا يحل لك" إنما وصلت كلمة الله إلي هيرودس عن طريق يوحنا. والرب قد قال لتلاميذه : وتكونون لي شهوداً ( أع 1 : 8 )، ولم يقصد التلاميذ فقط، وإنما هو علي مدي الأجيال .كما يقول عنه بولس الرسول : " لم يترك نفسه بلا شاهد" ( أع 14: 7 ). ولما احتج بعض الفريسيين علي تلاميذه لشهادتهم له ، أجاب :"إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ " ( لو 19 : 40 ). ويواصل قداسته : إن صَمَتنا عن الشهادة للحق ندان علي صمتنا الذي يسير دائماً في طريق الحق لا يستاء مطلقاً من كلمة الحق أن تُقال وأن تُكتب بل يُشجعها !!. انتهي الاقتباس ولم ينته الكلام