اختار صناع المسلسلات هذا العام أن يقدموا في رمضان قصة حياة قيثارة الأفلام الغنائية العربية علي مر العصور ليلي مراد في مسلسل تليفزيوني بعنوان أنا قلبي دليلي للمخرج محمد زهير رجب، ومن بطولة السورية صفاء سلطان في دور ليلي مراد، ورغم أنه من المبكر جدًا الحديث علي تقييم نهائي للعمل، إلا أن الجدل الذي واكب المسلسل كان تجسيدًا واضحًا لأزمة مسلسلات الشخصيات الشهيرة التي تبدأ عادة باحتجاج الورثة ورفعهم القضايا وقد أدي هذا الدور المخرج زكي فطين عبد الوهاب ابن نجمة الغناء الراحلة من مخرج الكوميديا الأول فطين عبدالوهاب، وليس انتهاء بالترشيحات لأداء أدوار الشخصيات الأساسية، والصراع علي دور ليلي مراد تحت لافتة سخيفة ومملة هي المنافسة بين ممثلي ومطربي مصر وسوريا، وكان للمسلسل نصيب أيضا من تلك الترشيحات والمنافسات حتي حسمت لصالح السورية صفاء سلطان! كل ذلك يبدو نموذجيًا ومتوقعًا عند صناعة مسلسل عن حياة شخصية معروفة بداية من أيام طه حسين في السبعينيات من القرن العشرين حتي أسمهان في العام الماضي، لكن السؤال الأهم الذي يحتاج الإجابة هو: إلي أي مدي سينجح صناع أنا قلبي دليلي في نقل روح هذه الشخصية الرائعة الرقيقة التي فضلت الاعتزال حتي لا تهتز صورتها المشعة أمام الجمهور؟ وإلي أي مدي سينجحون في نقل روح العصر الذي عاشت فيه وهو عصر الكبار بامتياز في كل المجالات تقريبًا؟ من الناحية الدرامية، تحفل حياة ليلي مراد بلحظات مثيرة وقادرة علي جذب اهتمام المتفرج بالإضافة بالطبع إلي أغنياتها الرائعة التي لحنها الكبار محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وأحمد صدقي، بل إنني أذكر من سنوات الطفولة أغنية بديعة لحنها لها بليغ حمدي في نهاية السبعينيات لتكون مقدمة ونهاية مسلسل إذاعي ل سمير عبد العظيم، وكان عنوان الأغنية ياعيني ع الدنيا، ولو عدت لكتاب الراحل صالح مرسي وعنوانه ليلي مراد (كتاب الهلال - ديسمبر 1995) لاستمتعت حقًا بتفاصيل مثيرة واعترافات سجلتها ليلي مراد نفسها أمام الكاتب الراحل، والحكاية بأكملها قصة صعود فتاة مصرية صغيرة تعرضت أسرتها لأزمات وانكسارات حتي صعدت بأهلها وإخواتها إلي الاستقرار، نشأت ليلي في مناخ فني بعد مولدها يوم الثلاثاء في شارع الجنزوري بالعباسية وتحديدًا في 12 فبراير 1920، فالأب هو المطرب الشهير زكي أفندي مراد الذي لعب دور سيف الدين في أوبريت العشرة الطيبة، والأم هي جميلة ابنة ابراهيم افندي زكي موظف البنك المحترم الذي يعشق أيضا الفن والموسيقي، والمنزل لا تنقطع عنه سهرات أهل الفن الذين اكتشفوا موهبتها، والذين استمعوا لصوتها لأول مرة عام 1932 ومنهم داود حسني ومحمد القصبجي وسيد شطا ورياض السنباطي وزكريا أحمد، ويومها أذهلت الحضور وهي تغني ل عبد الوهاب ياجارة الوادي وياما بنيت قصر الأماني، كل ذلك كان يعمل لصالح تنمية موهبتها المدهشة، ولكن ظروف الأسرة ارتبطت بحالة الأب البوهيمي المتلاف كما يصفه صالح مرسي، كانت حياته عاصفة وغير مستقرة، تتحسن الحالة المادية فتلتحق ليلي بمدرسة نوتردام دي زابوتر، حيث أبناء الباشوات، وتسوء الأحوال فتنقطع ليلي تمامًا عن الدراسة، ويتم بيع أثاث المنزل، بل ويقطع التيار الكهربي لعدم تسديد الفواتير. تغير ليلي مسارها فتلتحق بمدرسة للتطريز لتحصل بعد فترة تمرين معينة علي أجر يومي قدره سبعة قروش، ووصلت مغامرات الأب إلي درجة الاختفاء، حيث قرر القيام بجولة فنية قادته إلي تونس والجزائر ثم فرنسا، ومنها وصل خطاب من الأب يبلغ أسرته أنه في طريقه إلي أمريكا للغناء للجالية العربية هناك! نشأت ليلي أيضًا في أسرة كبيرة العدد، حيث أنجب زكي وجميلة تسعة من الصبيان والبنات، وكانت ليلي هي رقم ثلاثة في الطابور.. كلها تفصيلات تشعرك بنبض الحياة في أسرة مصرية صغيرة لم تكن تمتلك سوي موهبة الابنة الرائعة، ومنذ تلك الليلية التي غنت فيها الطفلة ليلي لعبدالوهاب ياجارة الوادي، وياما بنيت قصر الأماني في عام 1932 لم تتوقف عن الغناء خلال الخمسة عشر عاما التالية لتصبح -بحق- نجمة الفيلم الغنائي المصري الأولي.. الأب عرف مبكرًا قيمة صوتها، وجعلها تغني أمام صديقه محمد عبدالوهاب، وساندها لتغني في حفلتها الأولي أغنية آه من الغرام والحب آه من تلحين رياض السنباطي، وغنت في وصلتها الثانية في البُعد ياما كنت أنوح، كانت ليلتها تغني بفستان أسود ولكنها اخترقت حاجز الخوف لتوقع عقدًا بعشر اسطوانات مقابل 30 جنيها للاسطوانة، ولتمثل في يحيا الحب مقابل 300 جنيه ليقفز الأجر في فيلم ليلة ممطرة إلي 1200 جنيه، ثم ثلاثة آلاف جنيه في فيلمي ليلي في الظلام وليلي بنت الريف، وقفز بعد ذلك إلي 8 آلاف جنيه دفعة واحدة! في حياة ليلي مراد التي حكتها لصالح مرسي لحظات كفاح وصراع وصعود وهبوط.. حكت مثلا عن رحلاتها للغناء في كل أنحاء مصر بصحبة والدها في البداية ثم مع خالتها مريم بعد ذلك، حكت عن أحد الأمراء المخمورين الذي حاول اقتحام حجرة نومها بعد إحيائها لحفلة في منزل أحد أعيان كوم امبو، وتحدثت عن سقوط إحدي الجونلات التي كانت أمها تحشو بها فستانها حتي تبدو سمينة وهي واقفة مندمجة في الغناء، وتحدثت عن تضحيتها بحبها الأول، وكان يكبرها بعشرين عاما وصاحب أطيان ودبلوماسيا في الخارجية، اشترط عليها أن تعتزل الفن، ولكنها لم تستطع لأن أسرتها كانت تعتمد علي دخلها المرتفع من التمثيل والغناء، وفي الكتاب أيضًا لحظة غريبة ونادرة عندما تسلل الملك فاروق إلي حجرتها لكي تغني له، ولحظات تغري أي كاتب سيناريو للصراع الذي دار بين أنور وجدي وأحمد سالم لاحتكار نشاطها الفني، أما حكاية زواجها بأنور وجدي فقد اختلط فيها الفن بالواقع لدرجة أن نهاية فيلم ليلي بنت الفقراء هي حفلة زفافها الحقيقي، ولدينا كذلك جرعة عالية من الإثارة عن تنكرها في زي بنت بلد لكي تضبط زوجها أنور وجدي مع صديقته الفرنسية ليقع بينهما الطلاق الأخير. وخارج ما سجله صالح مرسي ستجد في حياة هذه المطربة الرائعة حكايات عن زواجها من الضابط وجيه أباظة والمخرج فطين عبدالوهاب، وعن قرارها الأخير بالاعتزال مع عودة خافتة مع بليغ حمدي، حياة ثرية مرصعة بالأغنيات والأفلام التي أصبحت جزءًا من ذاكرة الفن، فهل ينجح صناع المسلسل في تقديم عمل يليق بليلي وفنها؟ قولوا يا رب!