تحية طيبة من القلب لبريد روزا وبعد... لم تعد الحياة لها نفس الطعم الجميل، الذى كنت أتذوقه وأنا صغير قبل وفاة أمى رحمها الله - رغم أن كل شىء مازال تقريبًا كما هو على هيئته، الحى الشعبى الذى ننتمى إليه بقلب القاهرة، وجوه الناس، وكل ما له علاقة بالحياة المحيطة بنا.. والدتى كانت تعمل ممرضة بأحد المستشفيات الخاصة، تعود فى المساء سعيدة بما تبقى لها من إكراميات المرضى، تحمل لنا كل احتياجات البيت، ونحن فى مقدمة اهتماماتها أنا وشقيقتيَّ التوءم، أما والدى فكان دائم التواكل عليها، لا يحب العمل كثيرًا - بل إن توابع ما أعانيه من انكسارات منذ نعومة أظفارى وحتى الآن هى بسببه، تتدفق أحداثها أمامى، وكأنها منذ دقائق معدودة مضت وليست سنوات.. ينتظر عودة أمى كل ليلة لتمده بنفقات سهره على مقهاه المفضل، وإذ رفضت يوبخها بأبشع الكلمات وبصوت مرعب، رغم أن لديه مهنة إذا أخلص فيها - لكان وضعنا تغير جذريًا - إلا أنه يعمل يومًا ويجلس فى البيت أيامًا، يحبطنا بأوامره وتواكله، ظل على هذا الوضع حتى توفيت والدتي، كنت وقتها بالمرحلة الثانوية أحلم بكلية الطب، وكان عملى خلال إجازاتى الدراسية ليس أمرًا اختياريًا بل إجباريًا، لكننى فى النهاية لم أوفق والتحقت بكلية العلوم، فهى أيضًا لها مستقبل كبير، وقدوتى كان هو العالم الكبير الراحل د. أحمد زويل، فعلى حد علمى أنه كان مكافحًا مثلي، فقط لم يُذكر أن أباه كان انتهازيًا مثل أبي، لا يتشرف أحد بأفعاله، من بينها الاتجاه للتسول، واقتراض الأموال من الأقارب والأصدقاء دون ردها، اضطررت للاستمرار فى العمل أثناء دراستى، وأنا أضع مستقبل شقيقتيَّ بمقدمة أولوياتي، وضرورة أن يستكملا دراستيهما،، فهما تقريبًا يعتمدا علىَّ وعلى خالتى، كانت أمى تحكى لها كل كبيرة وصغيرة عن مأساتنا مع والدى قبل وفاتها، فأخبرتنى بأنها ستساعد معى فى تجهيزهما للزواج،، الآن أستاذ أحمد أصبحت مضطرًا لخوض الحرب فى أكثر من جبهة، والدى ينتظر حصولى على راتبى الشهري، الذى أتحصل عليه من إحدى شركات الأدوية، ليأخذ بضعة مئات من الجنيهات وكذلك مسئوليتى تجاه شقيقتيَّ، وأخيرًا الإنسانة التى ارتبطتُ معها بقصة حب، وهى زميلتى بالعمل. منذ عدة أيام حدثت مشادة كبيرة ومواجهة عنيفة بينى وبين والدى، عنفته خلالها بشدة، وأخبرته بأننى لم أعد أطيق تصرفاته معى، بعد أن تثاقلت الهموم على كاهلى وعليه مساعدتى، لكنه صدمنى بأن هذه هى حياته ولن تتغير، وعليَّ الاختيار بين البقاء فى جحيمه، ويبقى الوضع كما هو عليه، أو أن أترك البيت ويعتبرنى ميتًا، ففعلت وتركت المنزل، استأجرت شقة ولم أتخلَّ عن شقيقتيَّ ومساعدتهما، لكنه لم يتوقف، فضَّل الضغط عليَّ بسوء معاملته لهما وضربهما، ومطالبتهما بالخروج للعمل وترك دراستهما الجامعية التى أوشكت على الانتهاء، اضطررت للعودة ذليلًا، أشقى وأعطيه ما يكفيه، حفاظًا على أعز ما أملك فى حياتى وهما شقيقتاى - لا أعرف ماذا أفعل حقًا مع هذا الرجل معدوم الضمير والإنسانية، بعد أن أصبح يعيش معنا كشيطان بشخصية مركبة لا أفهمها، عندما تكون بحوزته أموال تعينه على حياته العابثة، يظهر أمامنا هادئ الطباع ودودًا ومرحًا، فننسى ما يفعله معنا من أعمال بلطجة، وإذا شحَّت مصادره المالية، يضغط علينا بسوء المعاملة ويغيم بسحابته الكئيبة، تمطر وابلًا لا ينتهى من هموم ومشاحنات لا تتوقف، مما دفعنى للتفكير فى الانتحار بسببه - رغم تدينى وتقربى الدائم من الله بالطاعات، لكن ما يستوقفنى بعد خشية الموت كفرًا بالحياة وربها، هو إحساسى بالمسئولية، تجاه شقيقتىَّ وحبيبتى التى وعدتها بالزواج، مع يقينى بأنها لن تنتظرنى كثيرًا،، رغمًا عنها،، فماذا أفعل. عزيزى و. ع تحية طيبة وبعد.. اسمح لى أولًا أن أحييك على كفاحك، ووقوفك إلى جانب والدتك رحمها الله، منذ أن كنت طالبًا بالمرحلة الثانوية، كانت هى دائمًا فى بؤرة أهتمامك، تسعى معها بكل حب لتحمل مسئولية أسرة بأكملها، كما أن تقديرك لدورها العظيم وبذل كل ما بوسعك لإراحتها، وأنت تحتاج لاستثمار الوقت فى تحصيل العلم وتحقيق مبتغاك، هو تصرف رائع يُحسب لك، وموقف رجولى سيُكتب بمشيئة الله فى ميزان حسناتك،، والله سبحانه وتعالى لا ينسى عباده الصالحين والمؤمنين وينصرهم ويدعمهم، لذا كتب لك التوفيق والتفوق فى دراستك، والتحاقك بإحدى كليات القمة وهى كلية العلوم، حتى أصبحت كيميائيًا مرموقًا ورزقك بالعمل المناسب، ولكل مجتهد نصيب.. تلك الرحله من العطاء لا يجب حصرها عند حاجز السرد، لقصة كفاح تخص صاحبها بمفرده - بل إن أثرها يجب أن يمس ويستحث عزيمة كل الشباب، حتى يدركوا جيدًا بأنهم جزء لا يتجزأ من لحمة العائلة، وقوة لا يستهان بها - ولا يصح أن يعزلوا أنفسهم عن واقعهم المُعاش، بغض الطرف كليًا عن المسئولية الملقاة على عاتق والديهم، حتى وإن تقاعس أحدهما عن أداء واجباته تجاه أسرته جزئيًا أو حتى كليًّا مثلما أشرت،، وعطفًا على تلك الروح الجميلة وقوة الإرادة التى تتحلى أنت بها، منذ نعومة أظفارك، أدعوك لعدم التركيز كثيرًا مع تكاسل والدك عن العمل والتشاحن معه، ولا تقطع مساعدتك له، فأنت ومالك لأبيك،، لكن أنصحك باحتوائه والتقرب منه أكثر وتقييم قدرته على العمل بموضوعية، أى أنه فى حالة تقدمه فى العمر وعدم قدرته على العمل الآن، فإذًا لا طائل من وراء مطالبته بشىء، أما وإن رأيت أن طبيعة عمله تناسب قدراته الصحية، وأنه ما زال يستطيع العطاء من أجل مساعدتك ومساعدة شقيقتيك، فاسلك طريق «الاحتواء»، فهو أقصر الطرق لبلوغ أى هدف، وليست المقاطعة والجفاء،، يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الأنعام، بسم الله الرحمن الرحيم: (قلْ تَعَالَوْا أَتْل مَا حَرَّمَ رَبّكمْ عَلَيْكمْ ۖ أَلَّا تشْرِكوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) صدق الله العظيم، وهنا يدعو الحق سبحانه وتعالى إلى عدم الشرك به، والإحسان للوالدين، وربط عكس تأدية تلك الطاعات بالتحريم،، لذا أنصحك بالجلوس مع والدك والعمل على إعادة روابط الثقة بينكما، ذكِّره بقيمته فى حياتكم، وأنك على يقين بأن وجوده منحة من الله وبركة، ثم اطلب من شقيقتيك برأب صدع علاقتهما به، من الممكن اختيار أقربهن له، واستغلال الوقت المناسب لتطلعه على أمر إعجابك بإحدى زميلاتك بالعمل، وبأنك تفكر فى الارتباط بها، لمحاولة تنبيهه بشكل غير مباشر أن الحياة بها المزيد من المسئوليات والأمانى المشروعة، التى لن تتحقق إلا بتحمل كل فرد لواجباته تجاه الأسرة التى ينتمى إليها، ثم تطلب منه بود أن يعمل إذا كان بمقدوره مساعدتك، وهنا سيكون رد فعله هو ما سيعكس إرادته فى تحويل الدفة وتغيير مسار تركيبته المتواكلة، إلى التعاون والإحساس بالمسئولية تجاهك، أما وإن رفض بشكل قاطع فلا تطالبوه بأى شيء، وأحسنوا إليه فيما تبقى من عمره، وثقوا بأن الله سوف يعوض صبركم خيرًا، وسيرزقكم من حيث لا تحتسبون، واعلم بأن كل شيء بمقدار،، أما زميلتك فلا غضاضة من اطلاعها على عدم جاهزيتك للتقدم لها الآن، وأن الهدف الأول الذى يفرضه عليك القدر، هو تجهيز شقيقتيك للزواج أولًا - هذا فى حالة تقديرك بأن ظروفك المادية لن تسمح بالزواج سريعًا، لأنه لا ضرر ولا ضرار، فقط تمسك بالأمل والسعى، وحافظ على إيمانك بقدرة العلى القدير، وثق بأنه لن يخذلك أبدًا،،، أما نصيحتى الأخيرة أوجهها من خلال «بريد روزا» لكل رب أسرة،، أقول له: «لا تنسى بأن دخولك عش الزوجية كان بمحض إرادتك، وهو بمثابة توقيع صريح منك على عقد أمانة - قوامها زوجتك ثم أبنائك، وأن الله كتب لك الاستمتاع بتلك الحياة الجديدة، شريطة أن تكون أمينًا فى الحفاظ عليها والإخلاص فيها، حاول أن تخفف عن رعيتك بالعمل المستمر من أجلهم كلما استطعت، ازرع فيهم روح الأمل وقيمة العطاء». دمت سعيدًا وموفقًا دائمًا و. ع