منذ أن قام النبي يوسف بدفن مومياء والده النبي يعقوب في مقبرة جده النبي إبراهيم، لم نتوصل إلي نص يوضح موضع هذه المقبرة طوال فترة ما قبل ظهور الإسلام، وقد اشرنا في مقالات سابقة إلي أن هذا القبر يقع في مدينة حبرون، وهذه المدينة عرفت بعد ظهور الإسلام بمدينة الخليل، والمؤرخون الذين تناولوا تاريخ المنطقة قبل الإسلام كانوا يعتمدون علي النصوص التوراتية عند ذكر فترة الأنبياء البطاركة. وللإنصاف لم يتورط مؤرخ منهم في التحدث عن مقبرة المكفيلة باسهاب أو باجتهاد بعيدا عما ذكر في التوراة، والذي يعود لمؤرخي هذه الفترة يكتشف أن تحديد هذه المقبرة ضربا من المستحيل. والغريب في الأمر أن المؤرخين المسلمين كانوا علي العكس تماما من سابقيهم، حيث أفردوا وأسهبوا وألفوا الحكايات من أجل تحديد مقبرة الخليل، والطريف في هذه الكتابات أنهم عندما يعجزون عن نسج قصة تتوافق والمنطق، كانوا يستعينون بالسماء وبالوحي، فيشركون الله عز وجل في الحدوتة للتأمين علي مصداقية وجغرافية المقبرة. وبعض هؤلاء الكتاب عادوا في حكاياتهم إلي فترة أنبياء بني إسرائيل، من هذه الحكايات ما ذكره ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار، حيث برر لنا كيفية اهتداء سليمان النبي إلي المغارة التي دفن فيها الخليل وآله برواية نسبها إلي كعب الأحبار قال فيها: فلما بعثه الله - سليمان - أوحي إليه: أبني علي قبر خليلي حيراً حتي تكون لمن يأتي بعدك لكي يعرف (وهو ما يعني أنه لم يكن معلوما لأحد). فخرج سليمان وبنوإسرائيل من بيت المقدس حتي قدم أرض كنعان، فطاف فلم يصبه فرجع إلي بيت المقدس، فأوحي الله إليه: ياسليمان خالفت أمري، قال سليمان: يارب قد غاب عني الموضع، فأوحي الله إليه: امضي فإنك تري نوراً من السماء إلي الأرض (عمود النور هذا كان مرشد أنبياء بني إسرائيل في النصوص التوراتية) فهو موضع قبر الخليل، فخرج سليمان ثانياً، فنظر فأمر الجن فبنوا علي الموضع الذي يقال له "الرامة"، فأوحي الله إليه: إن هذا ليس هو الموضع، ولكن إذا رأيت النور قد التزق بأعناق السماء، فخرج سليمان فنظر إلي النور قد التزق بأعناق السماء إلي الأرض فبني عليه الحير، قلت: (ابن فضل الله) ولم يكن لهذا الحير باب وإنما المسلمون لما افتتحوا البلد فتحوا له بابا وبنوه بناء محكمًا. والرواية هنا تبين أن قبر الخليل لم يكن معروفا حتي عصر سليمان، وأن سليمان نفسه أخطأ في تحديد موضوع المغارة أكثر من مرة، حتي أن الجن التي كان يسخرها النبي سليمان فشلت في تحديد مكانه وبنت الحير علي غير موضعه، ويتضح كذلك أن الله عز وجل هو الذي تدخل لتحديد موضع هذا القبر، وعندما تبين لله عز وجل أن الوحي لم يساعد سليمان في تحديد مكان المقبرة، اضطر عز وجل إلي إنزال عمود نور من السماء إلي مكان القبر علي الأرض، وبغض النظر عن هذه الحكاية يظل السؤال قائما: كيف اهتدي المسلمون لقبر الخليل؟، ما بين حير سليمان هذا المزعوم (حسب الرواية الإسلامية) وبين الفتح الإسلامي مئات السنوات دمرت خلالها المدينة عدة مرات، فكيف عرف المسلمون قبر الخليل؟! الرواة المسلمون اختلفوا حول هذا الأمر، بعضهم أرجع مهمة الكشف للرسول الكريم بمساعدة حامل الوحي جبريل، والبعض الآخر إلي أحلام ورؤي بعض الصالحين. فقد روي ابن بطوطة (ت 779ه ): " ومما ذكره أهل العلم دليلاً علي صحته كون القبور الثلاثة الشريفة هنالك ما ننقله عن كتاب علي بن جعفر الرازيالي، سماه "المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب "، أسند فيه إلي أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: لما سري بي إلي بيت المقدس مر بي جبريل علي قبر إبراهيم فقال: أنزل فصل ركعتين فإن هناك قبر أبيك إبراهيم. ثم مر بي علي بيت لحم وقال: أنزل فصل ركعتين فإن هنا ولد أخوك عيسي عليه السلام ، ثم أتي بي الصخرة .."، ونص الحديث المنسوب للرسول عليه الصلاة والسلام هنا يوضح قيام جبريل بارشاد الرسول لقبر الخليل ولقبر المسيح، لكنه لا يحدد موضع هذا القبر، هل كان معلوما؟، ما هي الشواهد التي تدل عليه؟، حتي أنه لم يحدد موضعه بالمدينة أو خارجها أو علي أطرافها، وهو ما يجعلنا نتمسك بسؤالنا: كيف اهتدي المسلمون إلي القبر الذي يضم الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب وزوجاتهم؟