التخوفات من سيطرة الحركة الإسلامية علي النخبة الحاكمة في تونس لها وجاهتها حتي الآن. والوجيه أيضا التوجس من تحول الأمر، فينقلب من احتجاجات شديدة، إلي إضرابات أسوأ تؤدي إلي فوضي.. وفراغ في الشارع التونسي، تدخل منه حركة "النهضة" الإسلامية.. لتملأ الفراغ. من مسلمات تاريخ الصراع علي الحكم في خلال الستين عاما الأخيرة، أن حركات الإسلام السياسي هي عادة ما يملأ الفراغ. مع أنه من المسلمات أيضا أن جماعات الإسلام السياسي، لا تنشيء نظاما ديمقراطيا. أصول الحكم الرشيد، والأحاديث عن التسامح، وقبول الآخر لم تخرج عن كونها اجتهادات متفائلة في كتب الفقه. بينما ضوابط الحكم في المجتمعات، باستيعاب المتغيرات، وضرورة تغيير الأحكام طبقا لتغيير الزمان، لم تعد سوي مجرد نظريات عديدة في صفحات كثيرة بكتب التراث. نظريات الفقه الديني متقلبة بين التيسير والتشديد. وآراء الثقات مختلفة بين العسر وبين اليسر. فمنهم من يتشدد، ومنهم من يطلق الأمور علي أساس الإباحة ما لم يرد نص. من الأئمة من يتراحم، ومنهم من يزجر.. وينفر سدا للذرائع. في كتب الفقه يغلب علي الأمور إطلاق المصالح. لكن في التاريخ غالبا ما تأخذ جماعات الإسلام السياسي بالأمور نحو التحوط من مفاسد لا يمكن الجزم بظهورها في المستقبل. تاريخيا أيضا، تسعي جماعات الإسلام السياسي للحكومة رغم ديمومة إعلانها عدم الرغبة فيها، ويتشبث الاصوليون بالحل والعقد، والكراسي.. رغم تواتر حديثهم عن الزهد فيها. صحيح أن الشعوب في المنطقة فارت في اتجاه ألا تظل مطالبها متوقفة علي ما يمنحه الحاكم. وصحيح أن التغييرات التي لم تشهدها دول العرب من قبل، تسعي لأن لا يظل تقرير المصير ميزة محتكرة للذين علي رأس الحكم. لكن كما ان التطور نحو الحريات مطلب عام، فإن الحفاظ علي المكتسبات "المدنية" يجب أن يكون هو الآخر مطلبا مهما. المخاوف من حكم "حركة النهضة" في تونس، تماثلها مخاوف من "نهضة" شبيهة في القاهرة. صحيح لكل "نهضة" بين القاهرةوتونس خصوصيتها، لكن المبادئ مازالت واحدة.. والأغراض واحدة هي الأخري. "نهضة" تونس تعني عودة إحدي عواصم الثقافة العربية مائتي عام للوراء . وتعني أيضا أن الدور علي عاصمة أخري، أو اثنتين للعودة إلي الخلف. لا خلاف علي سطوة صناديق الانتخابات. لكن الخوف من أن إرادة البعض أحيانا، لا تضع في اعتبارها حوادث التاريخ. ففي أفغانستان، جاءت طالبان للحكم بأصوات الناخبين، بعدها ضربت تماثيل بوذا الأثرية بالمدافع حفاظا علي الدين.. وضربت النساء في الشوارع بالكرابيج حفاظا علي الدين، ومنعت التلميذات من الدراسة بالقنابل والسكاكين.. حفاظا علي الدين أيضا. وفي إيران، عاد الخوميني من فرنسا علي طائرة أمريكية، بإرادة شعبية. وفازت جبهة محفوظ نحناح الأصولية في الجزائر بإرادة الناخبين، قبل ان تشتعل الجزائر، رغم إرادة الناخبين. وفي تونس ضيق النظام علي الإسلاميين منذ نظام الرئيس الحبيب بورقيبة. ثم اضفي الرئيس المخلوع بن علي مزيدا من الحجر علي الحركات الأصولية. والبديهي أن يعود الأصوليون بعد هجرة، فيخرجون من الكهوف سعيا للانتقام، مع أن المطلوب نظام.. لا انتقام.