ما الذي مهد لنجاح الديمقراطية في الغرب؟ يعتقد كثير من المثقفين والمفكرين العرب الديمقراطيين منهم والليبراليين والعلمانيين والإسلاميين علي السواء أن نجاح الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات الغربية جاء نتيجة لإقصاء الدين المسيحي عن واقع الحياة وعزل رجاله داخل جدران الكنائس وإبعادهم تماماً عن السلطة السياسية، هذا الاعتقاد هو اعتقاد خاطئ ومجانب للصواب تماماً، بل ينم عن عدم وعي بماهية الديانة المسيحية، وعدم وعي بطبيعة وخلفية الممارسات الوحشية التي كان يمارسها رجال الدين المسيحي «الكاثوليك» علي الشعوب الغربية، وكذلك عدم وعي بمصدر ومرجعية هذه الممارسات. إن الرسالة المسيحية في شكلها الحالي ليست كرسالة موسي عليه السلام، وليست كرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فرسالة المسيح بن مريم عليه السلام لم تأت بشريعة مفصلة عامة شاملة كاملة متكاملة تنظم وتسير شئون حياة الناس، كما هي شرائع وأحكام التوراة وكما هي شرائع وأحكام القرآن الكريم، فالمسيح بن مريم عليه السلام لم يأت لينقض شريعة موسي عليه السلام الموجودة في التوراة، وأقر المسيح عليه السلام ذلك بقوله: «ما جئت لأنقض بل لأكمل»، ما يعني أن المسيح عليه السلام جاء مقراً وداعياً ومقيماً لشريعة موسي عليه السلام ومكملاً لها، وليحل بعض ما حرمه الله علي بني إسرائيل، وإجراء بعض التغييرات الطفيفة علي شريعة وأحكام التوراة كما نص القرآن علي ذلك، إلا أنه بعد وفاة المسيح بن مريم تم تجاوز الشريعة التوراتية وتم وقف العمل بأحكامها من قبل أتباعه، كيف؟ ولماذا؟ هذا بحث له مجال آخر ليس هنا مجال نقاشه. الذي يعنينا في الأمر أن رسالة المسيح عليه السلام أصبحت بعد وفاة المسيح بن مريم عليه السلام ديانة منزوعة الشريعة التنظيمية لشئون حياة الناس، ومنزوعة الأحكام المفصلة الشاملة كما هو الحال في شرائع وأحكام التوراة والقرآن الكريم، وظلت المسيحية هكذا حتي يومنا هذا، ورغم أن الكتاب المقدس للمسيحيين يجمع بين دفتيه توراة موسي عليه السلام وإنجيل المسيح عليه السلام، إلا أن أتباع المسيح بن مريم علي اختلاف طوائفهم ومذاهبهم لا يطبقون شرائع وأحكام التوراة الموجودة بين أيديهم في شئون حياتهم، بل ويرون أنهم غير مطالبين دينياً بتطبيق أحكامها والالتزام بشرائعها، إنما هم ملتزمون فحسب بوصايا السيد المسيح بن مريم الواردة في الإنجيل برواياته الأربعة «مرقص، متي، يوحنا، لوقا»، وهي في جلها وصايا أخلاقية وإنسانية تركز علي العفو والصفح والتسامح والزهد في الدنيا والإقبال علي الله بقلب صاف خال من التمسك بالحياة ومباهجها وغرورها. هذا يكشف لنا عن خطأ منهجي وفكري وقع فيه كثير من المثقفين الديمقراطيين والليبراليين العرب وكذلك الإسلاميين العرب وهم يرجون لفكرة الديمقراطية ويطالبون بها، بل يكشف لنا كذلك عن حقيقة مهمة غابت عن الجميع ألا وهي أن الرسالة المسيحية بصورتها التي بدت عليها بعد وفاة المسيح بن مريم واستمرارها بهذه الصورة إلي يومنا هذا يجعل منها رسالة لا تصلح للتصدي للحكم ولا لتسيير شئون الناس، ولا لتولي السلطة عليهم، ولا للعمل السياس، لخلوها من التشريعات والأحكام التفصيلية الشاملة التي تنظم شئون الناس وتوجه حركتهم في الحياة، وهنا قد يتساءل البعض ويقول: إذا كان ذلك كذلك فكيف كانت الكنيسة في القرون الوسطي تحكم المجتمعات الأوروبية؟ وكيف كانت تقيم دولة دينية أو نظام سياسي علي أساس ديني؟ في المقال القادم نجد الجواب.. «البقية تأتي». باحث إسلامي- مقيم في أسيوط