في أحد البرامج كان الدكتور عكاشة يحلل نفسية وشخصية الرئيس الليبي في إطار الأحداث الأخيرة وخطابات الرجل الممتلئة عنفا والمختلطة المشاعر.. وإذا بمصطلح (تغيير المنظومة المعرفية) يعصف برأسي ويتجسد بملامح تتضح شيئا فشيئا أمام عيني ليأخذ عدة تطبيقات واقعية نعيشها الآن علي مستوي محلي وإقليمي.. وأول تلك الأشكال هو ما كان يتحدث عنه الدكتور عكاشة ألا وهو تغيير المنظومة المعرفية للديكتاتور أو المستأثر بالسلطة أيا كان منصبه رئيسا، أو زعيم قبيلة.. أو وزيرا، أو مديرا.. رئيس هيئة أو حتي شرطا.. والتوصيف الوظيفي للديكتاتور هو كل من تهيئ له الظروف أن يتولي منصبا قياديا تصاحبة سلطات غير محدودة ولا يتعرض للمساءلة أو المحاسبة.. كما أنه غالبا فوق كل القوانين إما بالقوة أو بالمداهنة.. وتصاحب تلك الوظيفة صفة الدوام أي عدم التغيير ولا الاستبدال فهو كرسي أبدي لا يتحرك الديكتاتور من فوقه.. حسب علم النفس إذن، وبعد فترة ما من اعتلاء المنصب، تبدأ المنظومة المعرفية للديكتاتور في الخلل.. فهو يخلق عالما وهميا حوله ويصدق ما فيه وينكر ما عداه حتي لو أشارت له الأدلة واحد تلو الآخر.. فيبدأ في تأليه ذاته واعتماد مصداقيته وحده والإيمان بنفسه ورأيه وبصيرته ومعتقداته وتصرفاته إيمانا مطلقا فهو لا يخطئ، بل هو غير قابل للخطأ.. ويقوم من حوله من المرتزقة وأصحاب الأبواق بترسيخ تلك الأفكار في رأسه وزيادة اختلال المنظومة المعرفية عنده.. كما تزيد قناعاته بتلك الأفكار السخيفة الباطلة كلما طالت سنوات بقائه في سلطانه.. ومما يكمل صورة اختلال المنظومة المعرفية إلغاء خانة الآخرين منها.. إذ يقوم الديكتاتور بحذف كل من يعارضه أو ينتقده من الوجود.. إما بتصفيته جسديا، أو بنفيه وإخفاء وجوده، أو علي الأقل بنبذه من دائرته.. وبذلك لا يسمع الديكتاتور سوي منظومته المعرفية الجديدة وأبواقها وصداها لدي من حوله من المرائين.. وهؤلاء يقدمون له ما يعرف بتضخيم الذات إذ يمدحون ما فيه وما ليس فيه، ولا يذكرون سلبياته وأخطاءه، فتتضخم ذاته وتصير الأنا هي مركز المعرفة ومحور الوجود.. ولما يأتي وقت كشف الأقنعة وينفض الكثيرون من حوله ويبدأ نظامه في الانهيار وسلطانه في الانكسار تأتي مرحلة الإنكار.. وكما هو معروف في علم النفس يأبي الإنسان في بداية المحنة أن يعترف بوجودها.. فلا يتصور أبدا أنه مخطئ أو أن منظومته المعرفية والبناء الوجداني الذي أنشأه قد ثبت فشلهما.. ولكنه بعد فترة يدخل في المرحلة الثانية وهي الغضب.. إذ تثور مشاعره ويقاتل لاسترجاع منظومته المفقودة بأي ثمن حتي لو علي حساب شعبه ودمه المراق كما يحدث في ليبيا.. يدخل بعدئذ الديكتاتور في مرحلة الحزن والانكسار ثم قبول الواقع.. وإن كان بعضهم قد يفضل الانتحار علي الانكسار والموت علي قبول الواقع وفقدان الحياة علي انهيار المنظومة المعرفية.. هذا فيما يخص جزء من الجانب السلبي لتغيير المنظومة المعرفية، أما الجانب الإيجابي فله حديث آخر.