قال لي الدكتور غالب - أستاذ صياغة القوالب إن تقديم برامج الفنون والثقافة والعلوم وحتي الأغاني والأحاديث والماتشات والمسابقات وحتي برامج الطب والجراحة والفسح والسياسة لا بد أن تصب في قالب - فهي تشبه تماما العجين قبل تحوله إلي فطيرة. كل هذه «القوالب» نصب فيها المادة لتخرج مقولبة - مصبوبة ومعلبة في شكل مسبوك محبوك لا يعرف سره خالك ولا أبوك - واسمه «البرنامج» ولقد تعلمت «صب القوالب» من خالتي شملولة عندما كانت تأتي بالعجين قبل العيد بأسبوعين وتصبه في قالب منقوش منقرش ومنقوش، وتدب القالب علي وجهه - فيخرج العجين صورة طبق الأصل، وإليك القاعدة لعملية العجين الفني: يبدأ التعب في صنع أول قالب - وهذا ما يسميه صناع «التهليب» بالنموذج ويسمونه كذلك «بالبايلوت». ابذل في هذا القالب كل جهد - اجعله منقوشا ومنقرشا ملونا ومزخرفا - واسعا قدر الطاقة بحيث تصب فيه أول «كعكة» أو أول نموذج - وعند عرض النموذج يفرح به أصحاب المصلحة - ويوافقون عليه - ابدأ الإنتاج والخير في الغزارة - صب وصب - خذ ملينا وأسهل في العطاء - شلال من الإبداع فيضان من الامتاع سيل من الاستنطاع - وربما يسعدك الحظ وتملك عدة قوالب، فهذا قالب للكعكة المذاعة، وهذا قالب للفزورة الملتاعة وهذا قالب للمسابقة والبتاعة، قوالبك تحدد تواصلك وانتشارك في كل إذاعة مسموعة أو «متشافة» يعني مرئية أو طبقية، ولدينا هذا الكاتب الشاطر الذي يقلب من قالب واحد عدة قوالب - وهو في الأصل «يسرق» أو يستعيد أو يقتبس القالب أو يؤجره أو يكلف بائسا «يخلقه» أو يغتصب القالب من كاتب غائب أو مؤلف أجنبي خائب لا يطالبنا بحقوق الأداء ولا يستطيع دفع الكهرباء ولا الماء ويصنع من هذا القالب «الغامض» «صاج» يصلح للإذاعة في ثلاثين زفته مذاعة - يستهدف بها خدامات البيوت والبوابين ونشالي الأتوبيس والمتروهات، ومستمعوه دوما من سجناء الاحتياط أو القاطنين للأبد في الليمانات والزوجات المطلقات ومدمني الأفيون ورواد البوظة وشيالي الحمولات ومساحي الأحذية ومتسلقي المواسير ليلا وشتاء ومستخدمي الطفاشات في فتح أبواب الشقق والعمارات صيفا أو كاسري أبواب الشاليهات خريفا. وبقية مستمعيه من الضائعين التائهين المخنوقين والمجانين البائسين الذين لا يجدون عملا ولا رغبة في العمل، والذين لا يملكون جهدا للرزق ولا رغبة في طلب الرزق ولا يملكون صنعة ولا رغبة في امتلاك صنعة، ولم يتعلموا ولا يملكون أي رغبة في «العلام».. إنهم - ياللهول - نفاية المجتمع إنهم في النهاية وللأسف سقط المتاع وسكان فاقدي القيد، ليس لهم أرقام أو مساكن أو بطاقات هوية - ليس لهم وجوه ولا أمل ولا مستقبل، وهم لهذا مستعدون لقبول منطق المؤلف الذي يعبث بمشاعرهم ويعدهم بالنعيم المفقود لكن دون جهد يذكر ولا صلاة ولا صيام، الشيء الوحيد الذي يفيد هذا الواقع المؤلم هو «الحداقة» والفتاكة - والعبط والبلاهة والمصادفة الجميلة - وأن يهبط رجل جميل ببدلة سهرة يحمل دفتر شيكات وقلبا من الماس وعقلا من المهلبية ليوافق علي الزواج من الفتاة الغلبانة أو يرفع شأن الفتي الصايع أو يناسب عائلة من اللصوص، وهذا القالب الذي يشبه «صفيحة الزبالة» تقليد معاصر لقوالب مشابهة عفا عليها الزمان وقعت في بلاد الفرنسيين والانجليز وكذلك عند الروس والطليان اسمها مسرحيات البؤساء سكان الحضيض لدي الخواجة جوركي وعند المدعو دكنز والمذكور فيكتور هيجو وعند ديستوفيسكي - كل هذا ذكر وتبشير للتغيير في أنظمة الواقع الاجتماعي بعد الوقوع في مذلة الحاجة - أعني التبشير بالثورة «أعوذ بالله». ولأن صاحب قالبنا «البلدي» لا يهمه «محركات المجتمعات التاريخية» لكن يهمه «قبض عرقه»، فهو يكتفي بأحلام «البؤساء» في الانتصار دون فعل، ويأتي الفعل «تطوعا ومصادفة وتنازلا» من فوق لتحت في شكل معجزة هبلاء. ورزق الهبل علي المجانين وأهو شغال الله ينور ولا حد فاهم.