حالة عم محمود ليست الوحيدة ولكنها واحدة من بين آلاف وربما ملايين المرضى الذين تجمعهم المعاناة بسبب نقص الأدوية الرخيصة فى الصيدليات والتى تتراوح أسعارها ما بين 5 و10 جنيهات، حيث تشكو الحاجة نوال لطفى المريضة بالفشل الكلوى من غياب المحلول الفوار للعلاج المعروف باسم «يوروسولفين» والذى لا غنى عنه بالنسبة لها ولا تعرف له بديلاً وحتى إذا عرفت البديل فهى لن تقوى على شرائه، لأن الميزانية «بصراحة» لا تسمح وفقًا لما ذكرته. أما هديل صلاح فأكدت على اختفاء بعض أدوية علاج نزلات البرد ومنها «بايسلفون»، علاوة على أدوية المعدة وعلاج الانتفاخ مثل «سبازموكانيولاز». عبير هارون تشتكى من اختفاء أدوية خفض الحرارة للأطفال مثل «سيتيال» وهو ما يضطرها للاستعانة بالبديل الأغلى سعرًا. كما تضرر عثمان عبدالخالق الموظف بالمعاش من اختفاء بعض أدوية علاج الضغط والتى اعتاد عليها ولا يأتى البديل بنفس المفعول، وحتى البديل الأعلى ثمنا لا يحقق له نفس النتيجة ويتساءل عن السبب. وفى جولة قمنا بها فى عدد من الصيدليات بمناطق قصر العينى والدقى ومدينة نصر، رصدنا بالفعل اختفاء وندرة بعض الأدوية التى لا تتعدى العشر جنيهات ومنها قطرة العين مثل «بريزولين» وبعض مراهم العين وأدوية الأتروبين المستخدمة فى حالات الطوارئ، وكذلك أدوية الكورتوجين الخاص بوقف القىء، و«سبازمو دايجستين» وغيرها من أدوية علاج الجهاز الهضمى. من جانبه أوضح د. أسعد شكرى الصيدلى بمدينة نصر أن الأدوية الناقصة فى السوق هى من إنتاج الشركات الحكومية وشركات قطاع الأعمال وأنها ليست مختفية ولكن قلت نسبة إنتاجها بسبب أن شركات الأدوية لا تحقق أرباحا مادية كافية، بل تؤدى إلى حدوث خسائر لهذه الشركات، فعلى سبيل المثال قطرة العين «بيروزلين» اختفت لفترة طويلة وكان ثمنها جنيه ونصف الجنيه وتضاعفت لتصبح ثلاثة جنيهات ولكن الزيادة مازالت غير كافية أمام سعر التكلفة الحقيقية، لذلك فهى دائمًا مختفية وتتوفر بكميات بسيطة جدًا، مشيراً إلى أزمة مستمرة بسبب نقص عقار وقف القىء، علاوة على عقار «هالونيز» المستخدم فى علاج الصرع، أما أدوية علاج نزلات البرد فلا توجد مشكلة أمام نقصها بسبب وجود ما يقرب من 50 بديلاً لهذه الأدوية. تسعير الدواء يحتاج إلى مراجعة، هذا ما أكده محمد البهى وكيل غرفة صناعة الأدوية باتحاد الغرف الصناعية، مشيرًا إلى أن شركات قطاع الأْمال تحقق الخسائر بسبب إنتاج هذه الأدوية الرخيصة والتى لم يتحرك سعرها منذ سنوات وأحيانًا يباع بعضها بسعر تكلفة مادة الكارتون المستخدمة فى تصنيع العبوة، ويقول إن أى وزير يتباهى بعدم اتخاذه قرار برفع أسعار الدواء. ويوضح البهى أن الأزمة تحتاج إلى عقلانية فى التعامل معها والزيادة المعقولة والتى فى النهاية تصب فى صالح المريض، حتى لا يضطر لاختيار الدواء البديل والذى قد يكون مستوردًا وغير معتمد، وبالتالى يؤدى للمزيد من المشكلات فالحل الأمثل فى مراجعة هذه المنظومة السعرية واتخاذ قرار جرىء يحقق هامش ربح بسيط للشركات. واشار إلى أن قانون ينص الصيدلة فى المادة 127 لسنة 1995 على أن أى دواء مسجل لأى شركة لا يتم طرحه لمدة عام يتم إلغاء تسجيله ولا يمكن إنتاجه مرة أخرى، وكانت وزارة الصحة قد أصدرت قرارًا يتم تطبيقه منذ بداية العام الحالى على الأدوية الجديدة التى تطرح فى السوق للمرة الأولى حيث يتم معرفة سعر هذا الدواء فى دول العالم كلها ثم يتم أخذ أقل سعر فيهما ويخصم منها نسبة 10٪ من السعر.
يقول دكتور طارق الصاحى مدير عام التفتيش على مصانع الأدوية أن الدواء يسعر عند بداية تسجيله وبعد 10 سنوات يمكن إعادة تسعيره مرة أخرى ويسمح القانون بتغيير التسعير بعدها بعد مرور سنتين أخريتين، ولشركات قطاع الأعمال العام الحق فى اتخاذ قرار رفع أسعار تلك الأدوية رخيصة الثمن، مع العلم أن شركة الدواء يقال عنها أنها خاسرة إذا حقق الدواء مكاسب تقدر بنسبة 50٪ حيث تحقق فى العادة مكاسب تتراوح ما بين 100 و200٪، وبالتالى الحديث عن تحقيق خسائر ليس له معنى والمقصود أنها لا تحقق المكسب المراد تحقيقه.
وأوضح أن وزارة الصحة سمحت من أجل السيطرة على أسعار الدواء برفع أسعار بعض الأدوية وتثبيت سعر البعض الآخر، وكانت النتيجة أن بعض الشركات اكتفت بتنزيل تسعيرة الفيتامينات والمعادن والمكملات الغذائية وتركت الأدوية المهمة، ويشرح د. طارق الأزمة قائلاً، شركات الأدوية تبحث عن تحقيق الأرباح وترفض تخفيض سعر الدواء أو حتى الإبقاء على سعره الحالى، ووزارة الصحة ترفض أى زيادة فى أسعار الدواء حتى تتجنب إثارة مشاعر الغضب لدى الناس، وفى النهاية تلجأ الشركات لتقليل الإنتاج والمريض هو المتضرر بالطبع. وأضاف إن قرار تسعير الدواء الذى وضعته وزارة الصحة ينص على تسعير الدواء بناء على أقل سعر عالمى له ثم يتم التخفيض عن هذا السعر بنسبة 10٪ ويتم تسجيله كأول صنف ويتم إعطاء هذا الحق للشركة الأم صاحبة الاختراع، ثم تأتى ثانى شركة لتسجل بسعر أقل 40٪ من الشركة الأولى، ويفترض أن لكل دواء 12 مثيلا فى السوق يتم تسجيلهما ولكن هذا القرار يسرى على الأدوية الجديدة التى تنزل السوق للمرة الأولى ولا يسرى على الأدوية القديمة التى لم تتحرك أسعار بعضها منذ عشرات السنين. وأشار إلى أن الأزمة نشأت بسبب رفض «الصحة» طلب الشركات رفع أسعار الأدوية التى تتراوح ما بين 5 و10 جنيهات بل وقامت بتخفيض أثمان أدوية أخرى لم يطلب تخفيض سعرها، ويقول إن أفضل الحلول هو إعادة تسعير هذه الأدوية ولكن دون المبالغة فى أسعارها. مليار و200 مليون جنيه هو حجم المديونية الحكومية لشركات قطاع الأعمال التى تقوم بإنتاج الدواء، هذا ما أكده د. محمود فؤاد رئيس المركز المصرى للحق فى الدواء، وأوضح أن مصر لديها أزمة فى الاستثمار فى الدواء منذ 10 سنوات وأن هذه الأزمة زادت بعد الثورة وذلك مع زيادة أسعار المواد الخام، ولذلك توقفت شركات قطاع الأعمال عن إنتاج 175 نوعًا من الدواء لأن قوتها على الإنتاج ضعفت ولكن المأساة تكمن فى أنها توقفت عن إنتاج ما يعرف بأدوية الطوارئ، تلك التى تحتوى على مادتى «الأتروبين والأدرينالين». وأوضح فؤاد أن أغلب شركات قطاع الأعمال دخل عمالها فى حالة إضراب ومنها شركات «إبكو وأمون»، علاوة على 8 مصانع أخرى، وهو ما زاد من نواقص الدواء بعد الثورة.
13833 ألفًا هى أصناف الأدوية الموجودة فى مصر والتى تتنوع ما بين الكبسولة والشرب والمحلول، يتواجد منهم بالفعل ما يقرب من 5 آلاف صنف دواء، مؤكداً وفقا لما يوضحه د. محمود فؤاد، عدم وجود قدرة سياسية يمكنها وضع سياسة تسعير جديدة تراعى البعد الاجتماعى فكيف يمكن لدواء به مادة فعالة وعبوة تغليف وإرشادات أن يكون ثمنه جنيهًا واحدًا فقط، وكل هذا بسبب منظومة التسعير الموجودة منذ الخمسينيات ولم تعد صالحة الآن. بالإضافة لما سبق يشدد فؤاد على أن 75٪ من صناعة الدواء فى يد القطاع الخاص والذى يضغط على الحكومة من أجل زيادة الأسعار، ولكن الأكثر خطورة فى صناعة الدواء هو توقف بعض الشركات عن إنتاج الدواء وعدم وجود تشريع قانونى يلزم الشركات بإنتاج الدواء، حيث توقفت شركة «اليكون» التى تنتج أغلب أنواع قطرات العين عن الإنتاج منذ فترة طويلة وهذا الإنتاج يصل إلى إسرائيل ولا يوجد فى مصر. الأزمة تحتاج إلى تحرك عاجل وعاقل فى نفس الوقت خاصة أنها ترتبط بصميم حياة المصريين، حيث اختفى الأسبوع الماضى فقط 63 صنفًا من الدواء، وفقا لما رصده محمود فؤاد والذى حذر من أزمة طاحنة فى بداية شهر يناير المقبل وتمتد إلى أدوية علاج أمراض الضغط والسكر والقلب والمضادات الحيوية. تسعير الدواء بناء على الاسم العلمى ووقف العمل بالاسم التجارى، هذا هو ما يمكنه أن يعمل على حل الأزمة ومساعدة الشركات الوطنية على الخروج من أزمتها لتتمكن من انتاج الدواء بسعر عادل يحقق لها الربحية ويقدم للمواطن البسيط الدواء بسعر مناسب بعيدا عن حروب شركات الدواء العالمية، والتى لا يهمها سوى تحقيق الأرباح بغض النظر عن صحة المواطن وحياته هذا ما يؤكده د. أحمد عبيد أحد أعضاء جمعية التجمع الصيدلى المصرى والذى يقول إن التصنيف الائتمانى للدواء المصرى قل كثيرا بعد الثورة، كما أننا لا نملك تصنيع المواد الخام بل نستوردها من الخارج، وما يزيد الأمر سوءًا هو مسألة الاسم التجارى فالمادة الفعالة الموجودة فى الدواء لها 12 مثيلاً، وهو ما لا يعرفه المريض الذى يجد نفسه مضطرا للبحث عن اسم عقار بعينه قد يكون مختفيًا من السوق رغم أن لديه القدرة على سراء الدواء البديل والذى قد يكون أرخص ثمنا من الدواء التى تنتجه الشركات الكبرى. وأضاف قائلاً: تسعيرة الدواء ينبغى أن تتم وفقا لطريقة موضوعية فلا يمكن أن يتم تسعير دواء تكلفته خمسة جنيهات بأربعة جنيهات، وهو سعر يغطى تكلفة العبوة فارغة فما بالنا بوجود المادة الفعالة فى داخلها، ويقول إن المشكلة زادت عندما أصدر وزير الصحة السابق فؤاد النواوى قرارا يسمح بفتح البوكس للشركات لكى تقوم بتسجيل 15 دواء بدلا من 13 دواء، وهو ما يزيد من فرصتها فى تسجيل أدوية باسمها والتحكم فى أسعارها، مستغلة أسماء تجارية جديدة ليبقى المواطن ضحية ما بين شركات الأدوية من ناحية والأطباء الذين تنجح هذه الشركات من خلال مندوبيها فى الوصول إليهم واقناعهم بوصف الأدوية التى ينتجونها لمرضاهم، مع تحذيرهم من شراء أى بدائل أخرى. أما عن المادة الفعالة داخل الدواء وما يقال عن اختلافها ما بين دواء وآخر، فيصفها د. أحمد بأنها أكذوبة مؤكدا أن تركيز المادة الفعالة واحدًا من بين البدائل التجارية ولكن صوت المصالح يكون أعلى فى كثير من الأحيان، لذلك مطلوب من وزارة الصحة اتخاذ قرار جرىء وإلغاء الاسم التجارى للدواء، ويوضح أن الفارق فى سعر الدواء يأتى نتيجة أن الشركة التى تخترع الدواء يصبح لها الحق فى وضع السعر الأعلى لأنها انفقت على الأبحاث العلمية من أجل اكتشافه وتطويره، ولكن الشركات التى تأتى بعد ذلك لتسجيل نفس الدواء يوضع لها سعر أقل وهكذا. كما يوضح أن العمل بالاسم التجارى يمكن أن يعيد للصيدلى دوره من خلال شرح طريقة استخدام الدواء للمريض، وهو ما يعنى استعادة دوره الارشادى، علاوة على قدرته على توجيه المريض عبر التعامل مع الأسماء العلمية التى درسها فى الكلية، وهو ما يساعد بدوره الاقبال على أدوية الشركات الوطنية وهى الأقل سعرا، ولكن المريض لا يعرف ذلك لأنها ليست لديها القدرة على نشر مندوبيها فى عيادات الأطباء مثلما تفعل الشركات الكبرى، وبالتالى تتجنب تحقيق الخسائر، بل وتتمكن من تحسين أوضاعها وإنتاج المادة الخام بدلا من استيرادها من الخارج، وهو أمر مهدد بالتوقف فى أى لحظة.