العالم يموج بالأحداث - جوع - نهب - وفساد ومظاهرات - عنف وانقسامات - فتن وجهاد كوارث بيئية وحروب تلوح في الآفاق. تفاصيل الواقع لا تترك لنا لحظة كي نفكر فضلا عن أن نتأمل. كأننا سقطنا في جب عميق من الأوحال لابد أن نعوم فيها ليل نهار، وإلا غرقنا، وهذا الأسبوع حاولت أن أتعلق بخشبة من مركب غرقت لألتقط الأنفاس. دراسة أمريكية حديثة أكدت أن ممارسة رياضة التأمل والاسترخاء يمكن أن تساعد علي إطالة العمر، الدراسة أجريت علي ثلاثين كهلا مارسوا علي مدار ست ساعات طيلة ثلاثة أشهر في جبال كولورادو المنعزلة، حيث تركوا عقولهم تسرح دون اكتراث للهموم، مع طغيان مشاعر الحب والتعاطف مع الآخرين، إذا أنها رصدت تزايد الانزيم المسئول عن إصلاح الخلل الذي يطرأ علي الكروموزات في الخلايا البشرية ويعمل علي تجديدها. لا أظن أن الأثرياء يمكن أن ينقطعوا عن العمل لثلاثة أشهر فيتركوا لمنافسيهم أن يربحوا عدة ملايين أكثر منهم. لكنها فرصة للعاطلين عن العمل لتجاهل فقرهم لبعض الوقت فهي أفضل من حرق أنفسهم في الشوارع. وفرصة للموظفين الذين لا يذهبون للعمل لينسوا قليلا أنهم قد يصيروا من المعدمين!. فإذا كنت متوسط الحال فالحل الأرخص أن تنقطع ولو لأسبوع في بيتك وتضع أمامك صورة جبال كولورادو وتتخيل نفسك جالسا هناك بشرط أن تكون وحدك. فإذا كنت متزوجا اترك لزوجتك وأولادها ضعف مصروف البيت في أسبوع فقد لا تشغلك إلا قليلا فإذا كنتما تعيشان وحدكما فيستحسن أن ترسلها لزيارة أمها، فإذا تعذر ذلك احبس نفسك في غرفة لتنفصل عن روائح الطبيخ ومشاجرات الجيران وكلاكسات الشارع، إذا كان الأمر صعبا يمكنك أن تصنع من الموسيقي الهادئة جدارا عازلا أو ضع سدادتين علي أذنيك ولتترك خواطرك تسبح كما يسبح السمك في الماء اغلق الموبايل وانزع فتيل الراديو والتليفزيون ولا تنظر للصحف. لا تفكر في ديونك ومستقبل أولادك وأي شأن يخص العمل ولا تنظر للصحف. تفكر في ديونك ومستقبل أولادك وأي شأن يخص العمل أو مباريات كرة القدم. وفر كل وقتك للاسترخاء والتأمل، وتأكد أنه لن يفوتك أي شيء. فكل ما يمكن أن يحدث سيتكرر فيما بعد إلي حد الملل. فما نبات فيه نصبح فيه. استدعي لذاكرتك المناظر الجميلة التي ترغب في تأملها، واستدع لسمعك أصوات الطيور والحيوانات وحفيف الأشجار وخرير المياه والشلالات وأمواج البحر وأصوات الرعد والبرق، ففي حجرتك المغلقة يمكن أن تتجول بخيالك في كل مكان وتري الشمس والقمر والنجوم. في البداية اترك عقلك يسرح دون أن تتعمد التفكير لتتخلص من نفايات تفكيرك الحالي حتي يصفو عقلك ويصبح كالإناء الفارغ بعدها ستجد عقلك بدأ يعمل وحده علي سجيته. في الغالب سيوجهه أولا لتأمل نفسك. امنعه وانس نفسك لتخرج خارج شرنقتك. كأنك تطل علي الدنيا من شاهق. تأمل الطبيعة حولك. التراب والصخور والجبال والأنهار والبحار والغابات، انس ما عرفته عنها فكر من جديد تفكيرا تلقائيا حرا متناسيا أي مسلمات عنها. ستجد الحياة أوسع مما كنت تراها ولا تشعر بها. وأن وجودك في حد ذاته نعمة لا تدركها بما يكفي.. وأن الحياة لا تشعر بنا ولا تعمل لنا حسابا مهما كانت قوتنا وثروتنا، ومراكزنا. كأننا خلقنا لها ومعنا الحيوانات والحشرات والجماد والنبات ولم تخلق هي من أجلنا وأن البشر رغم اختلاف المسافات في المكان والزمان يتشابهون. الطيبون في كل مكان وزمان مهما اختلفت الأجناس والأعراق واللغات. وكذلك الأشرار ثم كثرة من الذين يقفون في المنتصف، وستجد العباقرة والحكماء والجهلاء والمعوقين ذهنيا وجسديا. فكر بعدها في من تعرفهم ومن لا تعرفهم من البشر ستجد أننا جميعا ندور في فلك هذه الطبيعة شئنا أم لم نشأ وتربطنا ببعض ومعنا بقية المخلوقات حتي الديدان نفس الأواصر.. فكر في كل هذا كأنك تراه لأول مرة وانس كل ما قرأت عنه من قبل. نيوتن ككل الناس كان يعرف أننا إذا قفزنا لأعلي سنسقط لكنه عندما تأمل كأنه سأل الشجرة لماذا تسقطين فأجابته بأنه حكم جاذبية الأرض مثلي مثل البشر!. التأمل يثير الخيال وربما أحلام اليقظة. وفي رأيي أن الإنسانية بدأت عندما استخدم الإنسان عقله في تخيل أشياء لا وجود لها في الواقع وحلم بها وتمناها كأن يطير في الفضاء وحقق ذلك بالفعل بعد قرون طويلة وتخيل الإنسان الحب قبل أن يعيشه وبه اختلف عن الحيوان حتي لو اكتشف بعدها أن الحب وهم من صنعه لكنه علي الأقل عاش لذته!. الآن في نهاية تأملك يمكن أن تجد حلولا جديدة ومبتكرة لمشاكلك الخاصة. تعتمد فيها علي نفسك قبل الآخرين دون أن تحذف الآخرين والشأن العام من تعاطفك واهتمامك. بالطبع قد يوردنا الخيال موارد التهلكة خاصة في منطقتنا، لأننا لا نغادر أحلامنا لنحقق شيئا منها بل نظن أنها ستحقق دون أي فعل منا بعد أن نتكل علي الله وعلي الحكومة والآخرين، وحتي أكون صادقا معك أحذرك أن التأمل قد يصيبك بالاكتئاب أو الاحباط!. لكن الوصول إلي الحقيقة هو ما يساعدنا علي حل مشاكلنا بدلا من التخلص منها بحرق أنفسنا أو حرق الآخرين. إذا طبقت نصائحي هذه فثق أنك ستشعر في النهاية بحاجتك الشديدة للعلاج عند طبيب نفسي! ولكنني لا أنصحك. فهم مثلنا يعانون ما نعاني وينتهزون فرصة أن يطرق بابهم أي زبون كي يعيدوا عن طريقه الاتزان إلي أنفسهم وأرواحهم المرهقة.. تماما كما حاولت أن أفعل معك!!