بالأمس لما كتبت عمن يحرقون أنفسهم محاكاة لبوعزيزي التونسي لم يكن قد قام بهذا العمل في مصر سوي شخص واحد فقط ألا وهو صاحب المطعم الذي كان يواجه صعوبات في الحصول علي الخبز تبعا لما جاء بالأخبار.. والآن وبعد أقل من 24 ساعة ما زلت تائهة بين المواقع المختلفة للحصول علي عدد الذين قاموا بهذه الفعلة من القاهرة حتي الإسكندرية وهذا محام وذلك شاب عاطل.. وبدأت أتساءل: تري هو كابوس لا أستطيع أن أفيق منه؟ هذه المشاهد المتكررة التي نعجز عن وصفها بكلمات لائقة ليست سوي نتيجة لما يقوم به الإعلام ليس العربي فحسب، بل العالمي أيضا.. بوعزيزي إنسان ذو مشاعر مرهفة لم يستطع تقبل الإهانة وتمريرها والحياة معها.. غلبه يأسه بعد أن حرموه من المصدر الوحيد الذي يقتات به والأسي الذي رضيه لنفسه ولكنه لم يدم.. كان يحمل شهادة جامعية ولكنه عمل كبائع للخضروات فأخذوا عربته وأهانوه.. (رضي بالهم ولم يرض الهم به) فأشعل النار في نفسه.. ربما لم يقصد أن يتسبب في الثورة ولكنها اندلعت.. فماذا فعل الإعلام؟ قام الإعلام بتصوير الحادثة المؤلمة علي أنها بطولية وخارقة.. الرجل كان متألما وهم جعلوه ثوريا.. الرجل كان يائسا من سوء الأحوال وهم صوروه علي أنه قائد للثورة.. في الإعلام العربي استغلوا مشهد الرجل المشتعل بمنتهي الوحشية عندما أغفلوا الجانب الإنساني المؤلم للقلوب لما حدث، وحولوا الأمر لدعاية سياسية ورسائل لإشعال الثورات.. وفي الإعلام الغربي أطلقوا علي ما حدث (Self-immolation) أي تقديم الذات قربانا بحرق الجسد.. في محاولة أخري لتصدير الحادث علي أنه إشعال لثورة جماهيرية مقصودة من قبل بوعزيزي.. وهو ما لا ينطبق إطلاقا علي بوعزيزي ولا الذين قاموا بمحاكاته.. وهو ما شرحته بالأمس في مقالي وأكدت علي انعدام وجود هذا التقليد البوذي في ثقافتنا ومعتقداتنا.. مع احترامي وحزني الشديد لما حدث لبوعزيزي.. ولما جعل الإعلام هذا الحادث بطوليا صار حرق الأجساد مشهدا متكررا في عدة دول من المنطقة ومنها بلدنا مصر.. نوعيات مختلفة من الناس قامت بمحاكاة بوعزيزي.. إما لأنهم يعانون من اليأس بشكل أو بآخر ولا يستطيعون مجابهة الظروف السيئة، أو لإجبار من حوله علي تلبية مطالبه، أو لجذب الأنظار لمشكلته.. منهم من يتم إنقاذه ومنهم من يتوفي من جراء تلك الحروق.. هل كان هؤلاء سيحرقون أنفسهم قبل أن يعلموا بما قام به بوعزيزي؟ هل شجعتهم وسائل الإعلام علي القيام بهذا عند عرض الحدث كبطولة؟ هل افتقد هؤلاء معاني الحياة فذهبوا يبحثون عن بطولة بالموت؟ هل سيتغذي الإعلام علي متابعة الانتحارات القربانية ويثري بها فراغه؟ أم سيعدل الإعلام اتجاهه ويضع المسميات الصحيحة للوقائع حتي إن الذي يقدم علي الانتحار يفكر مرة ومرات قبل أن يفقد حياته أو يشوه جسده؟ الرجاء الانتباه للبسطاء من الناس.. الرجاء النظر إلي الأمور بقدر من الإنسانية لا بسياسة ولا بدبلوماسية..