في الأسبوع الماضي طرحت إشكالية الربط بين الدين والدولة في تعريف دولتي اسرائيل وإيران، وأشرت إلي كوننا في مصر نتبع نفس التعريف في دستورنا...علي الأقل في صياغته الحديثة التي ترسخت منذ عهد الرئيس السادات. وأشرت عرضا في نهاية المقال السابق إلي الدستور السعودي كنموذج آخر من نماذج الدولة الدينية، حيث ينص هذا الدستور في مادته الأولي علي ما يلي: "المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة؛ دينها الاسلام ودستورها كتاب الله تعالي وسنة رسوله ولغتها هي اللغة العربية." ثم تؤكد المادة السابعة من جديد معني المادة الأولي الظاهر والمضمر: "يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالي وسنة رسوله وهما الحاكمان علي هذا النظام وجميع أنظمة الدولة." يعيدنا هذا التعريف إلي معضلة من معضلات الدولة الدينية سواء كانت يهودية عنصرية أو شيعية أو سنية سلفية... أولا أن هذه الدولة التي تستمد سلطتها من سلطة الدين هي دولة إقصاء ورفض لكل من لا ينتمي لهذا الدين. أشرت إلي مآخذ الدولة الإسرائيلية والإيرانية في هذا المجال في مقال الأسبوع الماضي وكيف يتم اعطاء التعصب الديني شرعية قانونية ودستورية. السعودية فعليا وتطبيقيا دولة قائمة علي المواطنة المشروطة بالدين. علي سبيل المثال، سنجد أن القانون والأعراف المستقرة في هذا البلد الإسلامي الوليد تعتبر أن المسيحي أو اليهودي ليس من حقهما التجنس بالجنسية السعودية (مثل زوجات السعوديين غير المسلمات). سيقول قائل إن هذا أمر مفهوم ومشروع نظرا لمكانة مكة والمدينة في التاريخ والعقيدة الإسلامية...وهو شبيه بحال الفاتيكان التي لا يتجنس بجنسيتها إنسان إلا لو كان مسيحيا. ولكن لنترك هذا الوضع القانوني الشائك جانبا...ونفكر في سؤال آخر، أكثر إلحاحا: ما المقصود تحديدا بفكرة أن يستمد الحكم في الدولة الحديثة سلطته من كتاب مقدس؟ بمعني آخر ما المقصود ب"سلطة الدين"؟ وكيف يكون الكتاب المقدس والدستور شيئا واحدا في دولة تفصلها عن تاريخ نزول الكتاب قرون بأكملها؟ كيف تسيطر هذه السلطة الدينية علي أمور الحكم؟ كيف يستقيم العدل مع الإقصاء والنفي ورفض الآخر؟ وهل بدون السلطة الدينية لا يصلح الحكم ولا تستقيم السياسة؟ الحقائق تشير إلي أن قلة قليلة من الدول الحديثة تختار الصبغة الدينية، أما الأغلبية فتحتكم لسلطة القانون المدني في الحكم. من بين تلك الأغلبية دول متقدمة مزدهرة لا تحتكم لشرط الكتاب والسنة، فكيف ازدهرت؟ كيف أصبحت تشكل قوة عظمي رغم أنها لا تحتكم للدين في السياسة؟ يقف معظم الناس أمام هذه الأسئلة مشدوهين. لا يعرفون السبب في تقدم الغرب، ولا الشرق (الصين والهند مثلا)... لا يعرفون من أسباب تقدم الدول العظمي شيئا، ويفسرون كسلهم الفكري بأن هذا كله في "علم الغيب" من نوعية "ويخلق ما لا تعلمون". فضلا عن الخلط بين سلطة الحاكم والمشرع السياسية وسلطة الكتاب المقدس الأخلاقية، هناك طموح ساذج يعبر عن نفسه أحيانا بين المصريين، طموح التقليد الأعمي. فبعد أن كان المصريون ينظرون غربا ويتعلمون من أوروبا معني وضرورة الإصلاح الاجتماعي والديني والسياسي (كما حلم به الشيخ محمد عبده والشيخ رفاعة الطهطاوي وطه حسين وغيرهم) أصبح الكثيرون ينظرون شرقا صوب نموذج الدولة السعودية (ونسوا مثلا أن ابراهيم ابن محمد علي باشا أسقط دولة آل سعود الأولي عام 1818). مع كل احترامي لإنجازات الشعب السعودي الشقيق، يبقي أن لمصر تاريخا عريقا لا يمكن نسيانه لمجرد أن لعاب العامة يسيل أمام المال السعودي أو أمام وهم التقدم السعودي...مملكة ناشئة، غنية، تحاول جهدها بناء شعب جديد، ساعدها العرب جميعا واحترم جهدها العالم، لكنها مازالت في طور التلعثم، مازال مثقفوها الذين تعلموا في أوروبا وأمريكا يحاولون النهوض بها، مازالت كدولة تتجاهل حقوق الإنسان، تضطهد الآخر المسلم الشيعي، وتضطهد الآخر غير السعودي، المواطن بدون مواطنة، وتضطهد اليساري والعلماني، فعلي أي أساس صارت نموذجا يحتذي؟ الآن أئمتها السلفيين يظنون أن باستطاعتهم السيطرة علي عالم الإسلام السني برمته، هكذا بخبطة واحدة لأنهم نجحوا في تغييب عقول الكثيرين اعتمادا علي ألمعية إنسان مثلي ومثلك، صار اسمه علامة علي الفكر السلفي، هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703-1798) وحلفاؤه من آل سعود؟ الأخطر أن يشرع الأئمة الوهابيون في الترويج لمخططاتهم الظلامية علي أراضي الدول العربية والإسلامية الأخري، فيما يظل أهل هذه الدول مغيبين، تعميهم قداسة الأرض عن تخلف الفكر. مصر توجه أنظارها صوب السعودية وتقلدها فتأتي في دستورها ببدعة لم تعرفها مصر الحديثة، بدعة الشريعة كمصدر "أساسي" للتشريع وليس كأحد مصادر التشريع. سطوة الموضة أم سطوة المال؟ سطوة البترول أم سطوة القنوات الفضائية؟ أم أنها حقا "سلطة الكتاب" التي تدعّي الدولة السعودية الاحتكام إليه وتستمد منه سلطتها؟ أي كتاب؟ القرآن والسنة في المطلق، أم القرآن والسنة في تفسير الأئمة؟ مرة أخري، الدولة السعودية مجرد نموذج ضمن عشرات النماذج الأخري المتاحة للتفكير والاجتهاد. السؤال الذي يهمنا نحن كدولة وشعب هو ماذا نريد لمصر؟ أن نشبه أعداءنا في اسرائيل؟ أن نشبه أصدقاءنا في السعودية؟ أن نشبه أصدقاء صاروا أعداء في إيران؟ أم أن نشبه أنفسنا، كمصريين؟ هل نريد سلطة العقل الحديث أم سلطة التفاسير العتيقة والسلف الصالح، كأنه الوحيد "الصالح"؟ صالح لمن؟ لنا في القرن الواحد والعشرين؟ هل نريد سلطة الثقافة بروافدها الإنسانية الفرعونية والقبطية والمسلمة في نسيج يخصنا، أم سلطة الأغلبية النكراء، الغوغاء ضيقة الأفق، طاحنة الأقليات؟ دولة الجهل والتعصب أم دولة القانون المدني؟ ماذا نريد من الدولة؟ وماذا نريد لها؟ وكيف نجيب اليوم عن سؤال النهضة القديم: ضرورة وحتمية الإصلاح؟