دعوة للحوار حين صدر دستور 1971، كان الرئيس أنور السادات يخوض جانبا من معاركه مع معارضيه من اليسار بكل أطيافه، فأشرع سلاح الدين في مواجهتهم، وهو سلاح لم يغمد حتي هذه اللحظة. عدل «السادات» المادة الخامسة من دستور 1964 التي كانت تنص علي أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية» لتصبح في دستوره الذي صدر في سبتمبر عام 1971: الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع ليطيح بالقواعد التي أرساها دستور عام 1923 الذي صدر في أعقاب تصريح 28 فبراير 1922 اعترافا بأن مصر قد أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة، وظل العمل بدستور 1923 ساريا حتي صدور الدستور المؤقت لدولة الوحدة عام 1958 الذي اعتبر الدولة العربية المتحدة جمهورية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة وشعبها جزءا من الأمة العربية لكنه لم يشر إلي دينها أي نوع من الإشارات، وقد جاء هذا الدستور، بعد أن حجبت الثورة دستور 1954، وألقت به - كما قال المؤرخ صلاح عيسي- في صندوق القمامة. وكان هذا الدستور ينص علي أن مصر دولة موحدة ذات سيادة وهي حرة مستقلة، وحكومتها جمهورية برلمانية، كما ينص علي أن حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية الاعتقاد وشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات في الديار المصرية، علي ألا يخل ذلك بالنظام العام أو يتنافي مع الآداب، ولم يشر هذا الدستور بدوره إلي أن للدولة دينا. وفي عام 1980 أراد الرئيس السادات أن يمنح التيار الديني الذي استخدمه في معاركه مع اليسار مكسبا جديدا، كي يستطيع أن يمرر تعديلا آخر في الدستور يلزمه بالبقاء في الحكم لدورتين متتاليتين بما يرفع القيود عن هذا الإلزام ويجعل بقاءه في السلطة دون سقف، فعدل المادة من أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع إلي المصدر الرئيسي للتشريع. وواقع الحال أن دساتير العهد الجمهوري، قد انقلبت علي الروح التي صاغها ليبراليون عظام لدستور 1923 والذي استمر العمل به حتي عام 1958، فدستور ثورة 1919 لم يشر إلي أن للدولة دينا وطبقت الثورة شعارها أن الدين لله والوطن للجميع حين صياغته، فأقر بأن حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات والتقاليد المرعية في الديار المصرية، علي ألا يخل ذلك بالنظام العام ولا يتنافي مع الآداب، كما أن الحرية الشخصية مكفولة. ومع حالة التوتر الطائفي التي تطل برأسها بشكل مخيف علي أنحاء الوطن، تجدد الجدل حول المادة الثانية من الدستور الحالي الذي جري تعديله في عامي 2005 و2007 والتي تعيد التأكيد علي أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فلولا تلك المادة ما تسارعت قضايا الحسبة ضد المخالفين في الرأي، ولولاها، ما حفل بيان مجمع البحوث الإسلامية ردا علي تصريحات الأنبا بيشوي بشأن تحريف آيات قرآنية، بهذه اللكنة الاستعلائية التي تبقي النيران مشتعلة بدلا من أن تطئفها بقوله «إن مصر دولة إسلامية بنص دستورها الذي يمثل العقد بين أهلها.. وأن حقوق المواطنة مشروطة باحترام الهوية الإسلامية». ولكي نعيد شعار ثورة 1919 العظيم «الدين لله والوطن للجميع»، فقد آن الأوان لمراجعة هذا النص الذي يتناقض مع البند الأول من الدستور الذي ينص علي أن مصر دولة نظامها ديمقراطي ويقوم علي أساس المواطنة، كما يفارق المادتين 40 و60 من الدستور نفسه اللتين تؤكدان أنه لا تمييز بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، وأن الحفاظ علي الوحدة الوطنية وصيانة أسرار الدولة واجب كل مواطن. لقد نجح تيار الإسلام السياسي في مصر وفي غيرها وغيرها من الدول العربية في إلصاق تهمة الكفر والإلحاد بدعاة العلمانية وفصل الدين عن الدولة، ولعل مفكري الأمة وكتابها وسياسييها وحكماءها مطالبون أكثر من أي وقت مضي، بخوض هذه المعركة، معركة العلمانية التي تحرر دولة الحق والقانون والمساواة المطلقة من القيود التي تربط بين الدين والدولة، ليصبح التدين فضاء شخصيا بين الفرد وخالقه. نعم لا خلاص لمصر من نيران الفتن الطائفية، بغير تأكيد الطابع العلماني للدولة المصرية، فهل آن أوان خوض تلك المعركة؟