العلاقة الخلاقة بين الديمقراطية والدين _ أي دين _ هو أن يكون الدين بمثابة التنظيم الروحي الذي يبعث علي التسامح والإنسانية، بعيدا عن مفاصل السياسة وتعقيداتها، وأن تكون شروط تحقيق الديمقراطية هي الوعاء المدني للدولة كعادته ... يختزل الكاتب فهمي هويدي العديد من الحقائق الموضوعية للوصول إلي غاية وحيدة، هي الترويج للدولة الإسلامية، والدفاع عن طائفة الإخوان، خاصة في السنوات القليلة الأخيرة. ورغم احترامنا لشخص الكاتب، إلا أن هذا لا يمنع كعادتنا من التشابك معه حول الأفكار الاختزالية التي يطرحها بين الحين والآخر، وقد كان لكاتب هذه السطور عدة اشتباكات مع الكاتب الكبير في الفترة الأخيرة، إلا أن ما كتبه في مقاله الذي حمل عنوان "عام المفاضلة" في جريدة الأهرام في 15 يناير 2008م، جديد ومثير، مما دفعني للتشابك مع ما تضمنه هذا المقال، فهو يقول نصاً: "موقف العلمانيين من الدستور حين أصدر أكثر من مائتي مثقف مصري في مارس 2007م بيانهم الذي طالبوا فيه بإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للقوانين... فإن هذه المبادرة كانت تجاوزا لخط أحمر يحدث لأول مرة منذ صدور الدستور المصري في عام 1923م.... ويكمل "فإن هذه الدعوة التي مست نصا تأسيسيا فيه لم تكن إقصاء للمرجعية الإسلامية فحسب وإنما كانت في جوهرها إضعافا للهوية الوطنية". وأولا فإن نص المادة الثانية يقول "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" وليس المصدر الأساسي للقوانين، الأمر الأهم، هو هذا الاختزال الذي افترضه الكاتب فهمي هويدي... هل إذا كانت هناك مبادرة من بعض مثقفي الأمة "التي يسميها السيد هويدي بالعلمانيين" بتعديل بعض مواد الدستور "كتاب الوطن" بالآليات القانونية والشرعية هل يعد ذلك اختراقا لإجماع الأمة، وهل يعد ذلك خطا أخمر، وهل يعد ذلك إضعافا للهوية الوطنية ... هل الهوية الوطنية المصرية فقط ترتبط بنص المادة الثانية من الدستور أم أن الهوية الوطنية أكبر من ذلك بكثير، فالهوية لا تقاس بأي بعد من الأبعاد سواء اللغوية أو الدينية أو العرقية وإنما دائما تقاس بمعيار واحد وهو الجغرافيا، فالهوية هي الجغرافيا، وبالتالي فالهوية الوطنية هي هوية مصر بكل أطيافها وألوانها وعشائرها ... وليس فقط بنص المادة الثانية، لأن الخلط الذي وقع فيه السيد هويدي أنه خلط نص الدستور الذي حدد المشرع فيه أن اللغة الرسمية هي اللغة العربية، و هذا لا يعني إطلاقا استبعاد اللغات الأخري، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، بالمعني القانوني وليس بالمعني السياسي أو العقائدي كما تصوره السيد هويدي، وبالتالي فالخلط كان مقصودا بتشدق السيد هويدي بالمادة الثانية من الدستور، في الوقت الذي لا يكن نفس الحماس لبعض المواد الأخري التي يتضمنها الدستور المصري ... ومثال ذلك ... يقول نصا: "موقف المجتمع من النموذج الإسلامي .,.. فمن المفارقات أن المجتمع المصري المتدين بطبيعته شاع بينه في عام 2007م قدر غير قليل من الخوف من الإسلام وهو خوف نجحت في تعميمه وسائل الإعلام التي كثفت هجومها علي الإخوان لكي تكسب معركة أمنية تكتيكية" وقبل أن أكمل بقية فقرته، نلاحظ أن السيد هويدي هنا خلط بين الإسلام كدين وبين طائفة الإخوان كجماعة سياسية تتخذ من الإسلام ستارا لبث أفكارها هي وشروحاتها هي عن الإسلام باعتبارها الوكيل الشرعي لتنفيذ ما تراه هي من تعاليم الإسلام ... وأنهم مازالوا أسري الأفكار الضالة بدءا من هيكلهم التنظيمي الذي يترأسه ما يسمي "بالمرشد العام" وانتهاء باسم الطائفة نفسها التي تدعي أنها فقط هي المسلمة من خلال تسمية "جماعة الإخوان المسلمين"... الأمر الآخر فيما يتعلق بعقلية الكاتب فهمي هويدي الانتقائية، فهو قد تحمس للمادة الثانية من الدستور _ للعلم رغم أنني لست من المعارضين لها _ في الوقت الذي يغفل فيها وعن عمد بقية المواد التي تفيد بأن ما يصرح به في الفقرة السابقة هو تحيز أيديولوجي لا لبس فيه فقد غفل السيد هويدي نص المادة الخامسة التي تقول: "يقوم النظام في جمهورية مصر العربية علي أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور وينظم القانون الأحزاب السياسية.... وللمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية وفقا للقانون ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أية مرجعية دينية أو أساس ديني .... الخ" ... وهذا النص واضح للعيان ... أي لا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أية مرجعية دينية ... إلا أن السيد هويدي ينقض علي ذلك مبررا أفعال طائفة الإخوان التي يقول عنها .. "إذ بدأ العام بترويع الناس من استعراض طلاب جامعة الأزهر الذي صورته وسائل الإعلام بأنه إعداد للانقضاض علي السلطة" ... فهل يا أستاذ هويدي استعراض مليشيات الأزهر بملابسهم القتالية التي تشبه ملابس حزب الله وكتائب الميليشيات الإسلامية في فلسطين والأسلحة التي كانوا يستعرضون بها في حرم الجامعة ... هل هذا مجرد استعراض كما تقول ... وهل وسائل الإعلام هي التي صورته علي أنه انقضاض علي السلطة ... أفليس ذلك بالفعل توطئة من طائفة الإخوان التي أدمنت الأعمال القتالية منذ نشأتهم وحتي الآن، وهي التي أفرزت كافة جماعات العنف السياسية في المنطقة بأكملها، بدءا بمصر والجزائر وانتهاء بحماس فلسطين ... ثم يردف قائلا: "وانتهي العام بتأكيد التخويف والترويع من خلال الاستشهاد بالثغرات التي تخللت مشروع برنامج الإخوان المسلمين ... وبرغم أن كل أوراق الإخوان مكشوفة لدي أجهزة الأمن علي الأقل التي تعرف جيدا أن الخوف من هذه الزاوية لا أساس له ولا محل إلا أن الأجهزة المعنية استثمرت تلك الأجواء لإغلاق أبواب العمل العام في وجه الإخوان" ... وهنا المغالطة الكبري ... فقد اتسمت عقلية السيد هويدي بالتناسخ مع عقليات قادة الإخوان الذين يعتقدون أن من حقهم ممارسة العمل العام والمقصود بالعمل العام لديهم هو العمل السياسي، وهذا يتناقض مع نص المادة الخامسة من الدستور كما أسلفت، تلك المادة التي تجاوزها السيد هويدي وذهنيات قادة الطائفة المحظورة بحكم القانون وقوة الدستور ... ويعلل ذلك السيد هويدي بتفسيرات تآمرية لا أساس لها، أن الاستشهاد بثغرات في برنامج حزب الإخوان، تم استثمارها لإغلاق أبواب العمل العام لدي الإخوان ... فهل من حق جماعة محظورة بحكم القانون أن يكون لها الحق في العمل السياسي العام .... وهل من حق هذه الجماعة المحظورة أن تنقض علي مبدأ هام من مبادئ الدستور وأن تمارس نشاطها علي مرجعية دينية، فنص برنامجهم واضح، وهو إقامة الخلافة الإسلامية ... وبالتالي لم تكن هناك مؤامرة علي طائفة الإخوان واستثمار بعض الثغرات في برنامجهم، لأن الأصل في الموضوع أن الإخوان ليسوا قوة سياسية وإنما جماعة إرهابية محظورة وبالتالي فإن برنامجهم من الأساس لا سند قانوني لوجوده، وما حدث من بعض المثقفين الليبراليين من مناقشة برنامجهم _ وكنت واحدا ممن تعرضوا لكشف مسالب هذا البرنامج _ إنما كان يتم من منطلق كشف عورات التفكير لدي هذه الطائفة، وأنهم يلتفون علي الدولة المدنية ومنطلقاتها بالانقضاض عليها بشعارهم الفضفاض "الإسلام هو الحل" وهم الذين خلطوا بينهم كجماعة لها أهدافها السياسية وبين الإسلام كدين سماوي وليس الآخرين... وأخيرا هناك رسالة لابد منها ... فليس هناك أي دين يحمل تصورا محددا لطبيعة النظام السياسي، ففي إطار دين واحد نجد جماعات تعمل علي دعم حكم مستبد بينما تخاطر أخري لتحقيق الديمقراطية، وتتمسك ثالثة بالحق الإلهي ,... فالعلاقة الخلاقة بين الديمقراطية والدين _ أي دين _ هو أن يكون الدين بمثابة التنظيم الروحي الذي يبعث علي التسامح والإنسانية، بعيدا عن مفاصل السياسة وتعقيداتها، وأن تكون شروط تحقيق الديمقراطية هي الوعاء المدني للدولة وأن تمارس الدولة دورها كمنظم اجتماعي واقتصادي وسياسي من خلال الآليات السياسية المتعارف عليها بمنأي عن أية تصورات دينية ... ومن هنا تكون العلاقة بين الديمقراطية والدين، علاقة تكاملية لا تناقضية، فلا الدين يكون بديلا للديمقراطية والمدنية بحكم الحق الإلهي المقدس، ولا الديمقراطية يمكن أن تتحقق في ظل تصورات أيديولوجية ودينية تطرحها بعض الجماعات السياسية...