الأزمة المالية من وجهتي نظر «عربية وأجنبية» يتحدث هذا الكتاب عن المستهلكين المعيبين ك"نفايات بشرية" ومعوقات للاقتصاد، ويلخص صاحبه الأزمة في جملة "إذا كان لديك ما يكفي من النقود، تستطيع أيضا انتقاء أطفالك"، وهو ما يفسره بقوله إنه كثر الحديث عن تسييس الدين، بينما يوجد أقل الاهتمام بما يدور في العالم من تديين للسياسة! يدرس كتاب "أنا اقترض إذن أنا موجود" الذي ترجمته د. فاطمة نصر عن إصدارات سطور الجديدة معني الأزمة الاقتصادية ويتعاطي مع ما يمكن اعتباره مرحلة نهائية في مؤسسات الحداثة السياسية، ويسعي مؤلفه زيجمونت باومان وهو مفكر سوسيولوجي ومحلل اقتصادي وسياسي بولندي إلي فحص أمور أبعد من مجرد ظاهرة انهيار وول ستريت الاقتصادية، وما ينتهي إليه باومان هو أن الكسادين الاقتصاديين في 1929 و2008 حدثا في سياق تطورات سياسية وأخلاقية وتكنولوجية وعسكرية ضخمة، تجبرنا علي إعادة النظر في "كهوفنا التاريخية والعقلية" واتباع منطق الصراحة التاريخية ومراقبة اقتصادنا. أفعي اقتصادية تلتهم نفسها بعناد غزير، يواجه باومان في هذا الكتاب وهو عبارة عن أحاديث وآراء "شياطين العولمة الاقتصادية الطليقة"، يتحدي الشيوعية مثلما يتحدي الرأسمالية، كما يبدي تحديا تجاه العلم، العلم الذي يخدم الأرباح، تماما مثل الدين والسياسة. حيث يري أن الكيانات السياسية والدينية تغرس "العبودية الطوعية" في نفوس أتباعها، ونصبح جميعا أسري عصر صراع المصالح. يدعونا باومان لقراءة التاريخ والقانون والاقتصاد والثقافة والسياسة من منظور مختلف، لإدراك ألم الرحلة واكتشاف الضحايا الحقيقيين للأزمة المالية الحالية التي خلفتها الرأسمالية والمتزاوجون معها، مصورا مجتمعاتنا بعد أن وقعت في فخ أوهام العولمة الاقتصادية ب"الأفعي وهي تلتهم نفسها". ففي نظر المؤلف لم يكن سقوط وول ستريت المدوي في 2008 مؤشرا علي سقوط الرأسمالية ولن يكون أبدا، لأن التعاون بين الدولة والسوق سيظل هو القاعدة في ظل النظام الرأسمالي، والصراع بين الدولة والسوق إن طفا علي السطح سيظل هو الاستثناء. لذلك فإن سبب الأزمة الاقتصادية في نظر باومان ليس في عدم قدرة الحكومات علي تنظيم القطاعات المالية والمصرفية، بقدر ما هو بسبب عدم رغبتها في القيام بذلك أصلا. ما يحاول المؤلف توضيحه والوقوف عليه هو التشكيلات اللغوية المعقدة التي كشف عنها الانهيار الاقتصادي، بحيث تغيرت "لغة الحقوق" في الأزمة الأخيرة: أصبح المواطنون عملاء، والمرضي في المستشفيات زبائن، وأصبح الفقر مجرما والفقر المدقع "حالة مرضية مزمنة"، وينظر للكساد نفسه كقضية أمن قومي باللغة الجديدة التي نشرتها استخبارات الولاياتالمتحدة. دولة الرفاه الاجتماعي والنفايات البشرية الأسواق الاستهلاكية تسللت لتحل محل الدور الذي أهلته الدولة لها، يتحدث باومان إذن عما اسماه دولة الرفاه الاجتماعي كأحد أبرز الأمثلة علي التغييرات العميقة في وظائف الدول في عصر الانهيارات الاقتصادية. يقول باومان إن المهمة الجديدة لهيئات الدولة، هي أن تدير شيئاً أشبه ب"جيتو بدون أسوار" أو بمعسكر بدون أسلاك شائكة، بمعني فرض الأمن علي الفقراء وإحاطتهم بأبراج المراقبة والتعامل معهم بمهمة رجل الشرطة وأنتجت النفاية البشرية والسكان الزائدين عن الحاجة أو "فضلات السكان" أو "المنبوذون"، كما يسمي ملايين المهاجرين والعاطلين والمشردين، أو "جنس من المقرضين المدينين"، أو "جيوش من المستهلكين"، كلها أسماء وأليقاب واحدة، في الوقت الذي يكثر فيه وجود أناس أغنياء أكثر مما يجب. لعبت الدولة دورها الجديد المأسوف عليه كمنفذ لسيادة السوق. وفي تحليل باومان تركز الحكومات اليوم علي الدهاء في استعادة دوافع الخوف، يقول: "لو إن الناس لا يخافون لكان من الصعب تخيل الحاجة إلي الدولة". فالدولة في تعريفه هي "مصنع لإدارة الخوف" وزرعه وبثه وإعادة تدويره! أزمة القروض.. ثمرة نجاح فائق مثل مثقفين آخرين كثيرين من أوروبا الشرقية، عاني زيجمونت باومان من اضطهاد النازيين واضطرت أسرته للهجرة إلي الاتحاد السوفيتي عام 1939، وبعد غزو النازية لبولندا عاد إلي موطنه حيث تولي منصبا في جامعة وارسو، لكنه تعرض للتطهيرات المعادية للسامية عام 1968، واضطر إلي الهجرة مرة أخري إلي بريطانيا، وعمل هناك أستاذا بجامعة ليدز إلي أن تقاعد في عام 1990. يخبرنا الكتاب أن باومان هذا خبر بنفسه الاستقطاب لعالم منقسم بين رؤيتين متناقضتين في أسلوب التعامل مع الكساد: ففي الطرف الأقصي ثمة اقتصاد السوق الحر المهيمن وفي الطرف النقيض المقابل كانت الفاشية والديكتاتورية التي أدت إلي بشاعات هتلر وستالين والتي صدمت العالم وأشعرته بالخزي والغضب. السطو علي العالم يرصد ملامح التوحش الرأسمالي إعادة صياغة الرأسمالية أو "الأصولية الرأسمالية" هو الوجه الآخر للأزمة الذي يرصده شريف دلاور في كتابه الأحدث "السطو علي العالم.. التنمية والديمقراطية في قبضة اليمين المتطرف" الصادر عن دار الطناني. فقد أثبتت الأزمات الاقتصادية التي توالت منذ تسعينيات القرن الماضي حتي العقد الأول من الألفية الجديدة أن الاقتصاد وليست السياسة هو صانع الأحداث الإنسانية. وأنتجت الأزمة المالية كما يذهب المؤلف فراغا مملوءاً بالفوضي والتناقض والغموض. وما لا ينتبه إليه أحد بحسب دلاور أن الادعاء بحاجة الأسواق إلي كيانات ضخمة هو قول مغلوط، فالحاجة الأكثر هي إلي إيجاد منافسة متكافئة لشركات صغيرة ومتوسطة تتحرك بسرعة داخل السوق الكبيرة. وبنفس منطق المفكر البولندي يتحدث دلاور عن وظيفة الإحسان التي تقوم بها مؤسسات الدولة الرأسمالية، حتي أصبح دورها سدا لشروخ الفقر، بينما المواطن يطالب بالعدل وليس الإحسان! وكذلك يتوافق الرأيان العربي والأجنبي بخصوص النموذج الأصولي لرأس المال الذي يغلب رغبات الفرد كمستهلك ومضارب علي اهتماماته كمواطن، أو بتعبير دلاور: "يضع عربة الرأسمالية أمام حصان الديمقراطية". يتحدث المؤلف عما أسماه "اقتصاد الكوارث" و"العلاج بالصدمة" حين يحدد مواطن الضعف والخلل في المنظومة الرأسمالية، فمن ناحية تحولت عقيدة السوق الحرة إلي صنم أيديولوجي، ومن ناحية أخري أصبحت الرأسمالية حرة في ارتداء شكلها المتوحش في كل أنحاء العالم. أما ملامح التوحش الرأسمالي فيرصدها المؤلف في: انتقال العالم من المنافسة الاقتصادية إلي المنافسة المالية، واستيلاء المضاربين في البورصات العالمية علي سلطة حكم الاقتصاد العالمي، وأصبحت الديون وليست المدخرات هي مصدر توسع الرأسمالية الحديثة، وهذا تماما ما قصده باومان من مقولة جيش من المستهلكين والمقترضين. ويقترح شريف امتثال نموذج آخر هو الرأسمالية الكلاسيكية الذي يطبقه النموذج السويدي، حيث يضمن هذا النموذج استقرار رءوس الأموال واحتفاظ الدولة بسيادتها علي العملة الوطنية. أما عن مستقبل الرأسمالية، فيري أن الخطوة الأولي لمعالجة الأزمة هي فهم الحدود بين الرأسمالية والديمقراطية، أو بين اللعبة الاقتصادية "السوق" وبين قواعد تحديد اللعبة "الدولة".