منذ أقدم العصور عرف البشر الأزمات الاقتصادية، لكن هذه الأزمات قبل العصر الرأسمالى كانت تأخذ طابعا مختلفا عن أزمات عصرنا الحاضر، كانت تتركز فى نقص السلع والمنتجات الناجم عادة عن كوارث طبيعية وبيئية. وقد قام المؤرخون قديما برصد الأزمات وتقديم تفسير لها كان لا يخرج عادة عن الغضب الإلهى على البشر بسبب خطاياهم، وكان أسلوب معالجة الحكام للأزمات فى أغلب الأحيان لا يخرج عن هذا المفهوم، حيث يتركز فى اتخاذ إجراءات صارمة فى مواجهة كل خروج عن النواهى والمحرمات الدينية. لكن مطلع القرن الخامس عشر الميلادى التاسع الهجرى، ذلك الزمن الذى عرف واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية فى تاريخ مصر فى العصر الوسيط، شهد مؤرخا من نوع مختلف ذهب لتحليل الأزمة فى محاولة للتوصل إلى أسبابها وتقديم حلول لها من خلال دراسة الواقع المعاش. إنه تقى الدين أحمد بن على المقريزى، المؤرخ المصرى الذى ترجع أصول عائلته إلى بعلبك بلبنان، ذلك المؤرخ الفذ صاحب الأعمال الضخمة التى تعد قمة ما وصل إليه التأريخ فى العصور الوسطى، للرجل رسالة صغيرة تحمل عنوان: «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، ناقش فيها الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى أمسكت بخناق المجتمع المصرى فى عصره. والرسالة من الكتب العربية القليلة التى اهتمت بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية فى التاريخ، وربطت بينهما بشكل علمى دقيق. وفى هذا الكتاب يؤرخ المقريزى لغلو الأسعار والمجاعات التى أصابت مصر منذ أقدم العصور حتى 808 هجرية، ثم يحاول تشخيص أسباب الأزمة الطاحنة التى كانت مصر تعيش فى ظلها فى أوائل القرن التاسع الهجرى ويقترح الحلول العملية لها.. وقد كان المقريزى فى هذه الرسالة الصغيرة سابقا لعلماء الاقتصاد الأوروبيين بمائة سنة فى عرض وشرح النظرية القائلة بأن «النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق».. وقد توصل المقريزى فى هذه الرسالة أيضا إلى نظرية دورية الأزمات الاقتصادية، كما أدرك معنى التضخم وقدم شرحا وافيا له ولأثره على مختلف طبقات المجتمع. وفى محاولته لتشخيص سبب الأزمة الاقتصادية ربط بين الفساد السياسى من ناحية، والاستغلال الاقتصادى المتمثل فى المبالغة فى الضرائب على الأطيان الزراعية من ناحية ثانية، وانهيار النظام النقدى من ناحية ثالثة، يقول المقريزى: «وسبب ذلك كله ثلاثة أشياء لا رابع لها: السبب الأول وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال بحيث لا يمكن التوصل إلى شىء منها إلا بالمال الجزيل، فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمله من العمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشى السلطان ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الأعمال. السبب الثانى غلاء الأطيان وذلك أن قوما ترقوا فى خدم الأمراء يتولفوا إليهم بما جبوا من الأموال إلى أن استولوا على أحوالهم فأحبوا مزيد القربة منهم، ولا وسيلة أقرب إليهم من المال، فتعدوا إلى الأراضى الجارية فى إقطاعات الأمراء، واحضروا مستأجريها من الفلاحين وزادوا فى مقادير الأجر. فثقلت لذلك متحصلات مواليهم من الأمراء، فاتخذوا ذلك يدا يمنون بها إليهم، ونعمة يعدونها إذا شاءوا عليهم. فجعلوا الزيادة دينهم كل عام حتى بلغ الفدان لهذا العهد نحوا من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث. السبب الثالث رواج الفلوس النحاس فانه لم تزل سنة الله فى خلقه وعادته المستمرة منذ كانت الخليقة إلى أن حدثت هذه الحوادث، وارتكبت هذه العظائم أن النقود التى تكون أثمانا للمبيعات وقيما للأعمال إنما هى الذهب والفضة فقط لا يعلم فى خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبدا فى قديم الزمان ولا حديثه نقدا غيرهما، فأصبح للناس ثلاثة نقود أكثرها الفلوس وهو النقد الرابح الغالب والثانى الذهب وهو أقل وجدانا من الفلوس، وأما الفضة فقلت حتى بطل التعامل بها لعزتها، وعظم رواج الفلوس وكثرت كثرة بالغة حتى صارت المبيعات وقيم الأعمال كلها تنسب إلى الفلوس خاصة...». لقد كان المقريزى مؤرخا لعصر وكان فى نفس الوقت علامة على عصر ومن خلال رسالته الصغيرة تلك نتعرف على لحظة فارقة فى تاريخ مصر، من خلال عناصر الأزمة نكتشف ملامح انتقال مصر من عصر اقتصادى إلى عصر.