تتعدد التفسيرات والتحليلات التي يمكن تقديمها لكثير من مشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، بل والسياسية.. وطبيعي أن تختلف هذه التفسيرات من مشكلة إلي مشكلة أخري، ومن قضية إلي قضية أخري، وبديهي أن يكون لكل واحدة منها أسبابها ومصادرها.. غير أنني أعتقد أن هناك قاسماً مشتركاً بين هذه الأسباب والتفسيرات جميعها، وهو ما يجب الالتفات إليه، ويجب الاهتمام به.. وأقصد هنا غياب «العدالة الناجزة».. والعدالة الناجزة تعني في رأيي إعطاء كل ذي حق حقه، ليس في المطلق، ولكن في التوقيت المناسب.. العدالة الناجزة تعني أن يوقن كل شخص أنه عندما يحتكم إلي القضاء فإن القضاء سينصفه في حياته، وليس بعد مماته، كما يحدث في كثير من قضايا النزاع حول الأرض أو قضايا الميراث.. العدالة الناجزة تعني أن يشعر كل شخص أن هناك علاقة بين الفعل والعقاب، أو بين الفعل والثواب ولا يتم الدوران في دوائر مفرغة.. العدالة الناجزة تعني أن يكون كل شخص مطمئناً علي نفسه وعلي ماله لأن حقه في الحصول علي العدل وبسرعة حق يتمتع به. ولقد أوجز الرئيس مبارك في كلمته بداية هذا الأسبوع مع قضاة مصر القضية، وأجملها في صياغة محكمة " نسعي لتحقيق العدالة الناجزة.. مقتنعين بأن العدالة البطيئة تورث الإحساس بالمرارة لدي المواطنين.. ومتطلعين للمزيد من جهود قضاتنا.. للتعجيل بالفصل في القضايا.. كي ينال كل ذي حق حقه.. ولكيلا يطول انتظار المتقاضين.. أو تطول معاناتهم. إنني أتوجه لقضاة مصر من هذا المبني العريق.. أن يولوا هذه القضية ما تستحقه من اهتمام وعناية". ولا يعتقد أحد أن تأثير غياب العدالة الناجزة هو تأثير نفسي علي بعض الأشخاص، بل إنني أري أن هناك تأثيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية خطيرة.. فغياب العدالة الناجزة يدفع الناس إلي عدم احترام القانون، وإلي انتهاكه باستمرار.. وغياب العدالة الناجزة يجعل بعض الأفراد لا يتورعون عن ارتكاب كثير من الجرائم.. وغياب العدالة الناجزة يفتت العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وداخل الجماعات ، ويجعل المجتمع في وضع أشبه ما يكون بوصف إميل دور كايم «مجتمع الأنوميا»، حيث لا قوانين ولا قواعد تحكم تصرفات الأفراد.. وهي نفس الحالة التي يصفها الدكتور عمرو عبد السميع في مقالاته الرائعة عن الشوارعيزم. والصدق أقول لكم: لو خيروني بين الأحكام الظالمة السريعة وبين الأحكام العادلة البطيئة التي تستغرق سنوات وسنوات لاخترت الأولي رغم قسوتها علي الثانية رغم رحمتها.. وما أحوجنا إلي الاثنين معاً: السرعة والرحمة.. أو إلي العدالة الناجزة.