كوميديان فرنسى شهير اسمه ديو دونيه، قرر أن يقدم عرضا مسرحيا ساخرا بالطبع بعنوان «الجدار» فى إحدى المدن الفرنسية الصغيرة، إلا أن قطاعا من المؤيدين لدولة إسرائيل، الذين يعتبرون ديو دونيه معاديا للسامية، ذهبوا للقضاء وحصلوا على حكم بوقف العرض، إلا أن الكوميديان نجح فى معارضة الحكم وحصل هو أيضا على موافقة قضائية بعرض «الجدار»، لكن مجلس الدولة الفرنسى انعقد على الفور، بعد ساعة واحدة من حصول ديو دونيه على الموافقة، وعقد جلسة عاجلة وقرر وقف العرض من جديد، ومجلس الدولة الفرنسى هو أعلى جهة قضائية إدارية وأحكامها نافذة بالمسودة، وهو بالمناسبة نظام قضائى معمول به فى مصر، المهم أن الكوميديان رحل من المدينة الصغيرة وعاد للعاصمة من جديد للمسرح بعد أن يئس من تقديم العرض لأن كلمة القضاء كانت نهائية ولا يد فوقها. فى باريس، ورغم توقف العرض نهائيا، إلا أن منظمات يهودية وصهيونية، تابعت المعركة، ودعت لتظاهرات فى ميدان الباستيل، تنديدا بديو دونيه، لانه فكر فى تقديم عرض مسرحى من المحتمل أن يهاجم فيه إسرائيل، لانه من وجهة نظرهم معاد للسامية، وفى ساحة الباستيل دارت معركة طاحنة، بين مؤيدين للكوميديان، ومعارضيه الداعمين للدولة العبرية، ولم يتوقف القتال إلا بعد أن قامت قوات الشرطة باعتقال (نعم اعتقال) خمسين شخصا من الجانبين، لخروجهم عن سلمية التظاهرة (لم تستخدم أسلحة مطلقا فى الاقتتال الشخصى بين المؤيدين والمعارضين)، ورغم كل ذلك، استمر منع العرض، ولم يتحرك أحد فى فرنسا لمناصرة الفنان الذى تم منع عرضه المسرحى الساخر، كما لم تشهد الصحافة الفرنسية موجة عاتية من الغضب على قتل حرية التعبير بحكم محكمة، فالجميع هناك، يحترم القضاء حقا، حتى لو تعلق الأمر بقضية محورية مثل حرية التعبير، التى تعتبر فرنسا من الداعمين والمروجين لها تاريخيا وحتى الآن. بالمناسبة، فى نفس الوقت، وفى تل أبيب، كانت الخارحية الإسرائيلية تستدعى سفراء دول الاتحاد الأوروبى، لتعلن لهم رفضها وغضبها من تصريحات دولهم بشأن رفضهم لبناء مزيد من المستوطنات، وهو الأمر الذى اعتبرته إسرائيل انحيازا للفلسطينيين، وضد دولتهم، وكان من بين هؤلاء فرنسا التى كانت أسكتت ليلتها صوت ديو دونيه، ورفضت عرضه المسرحى بحكم من أعلى جهة قضائية فرنسية فى ظرف ساعة من الزمان، لكنها تحدثت بعدالة فى شأن الشعب الفلسطينى. الأكيد أن القضاء الفرنسى، عندما قرر منع العرض، لم يكن منحازا لطرف ضد آخر، لكنه كان يخشى الصدام بين أطراف منفلتة الأعصاب، متعصبة عمياء، وهو ما حدث بالفعل، ولكن على مستوى أقل، لأن حكم المحكمة أجهض عنفا متوقعا معلنا، والأكيد أيضا أن مجلس الدولة الفرنسى يعى جيدا أهمية حرية التعبير وقيمتها فى منظومة قيم الجمهورية الفرنسية، لكن الصالح العام والحرص على سلامة المواطنين مقدم على كل شىء.. حتى على حرية التعبير، فلا توجد حرية تعبير تستهدف إيذاء مخلوقات الله.