كم كانت هى الأحداث ناطقةً بحالنا التى لازلنا نعانى آثارها، ففي غضون الأربع سنوات الماضية، تعرضت مصر والمنطقة من حولها لخطرٍ داهم، طالت تداعياته المرعبةُ، أمن وسلامةَ ووحدةَ البلدانِ، ونحنُ إذ نتأمل فيما هو حاصل الآن، وما دفع لحدوثه منذ هبت رياح الفوضى، وراحت تعصف بمن كان قائما من الأقطار، لتنال منها منال الدمار والخراب، حين نتأمل ذلك، لا بد وأن ننطلق من اعتبار، أنه لا يمكن للفعل الخارجى المستهدف للأوطان والمتربص بها، ذاك الذى نُطلق عليه المؤامرة لا يمكنه وحده أن ينشيء عبر مخططاته التخريبية، شكلا محددًا أو مصيرًا راهنت عليه المؤامرة الخارجية، اللهم إلا إعاقة مشروع الدولة، أو مشاغلتها، أو تأخير نهوضها وقيامها، ويبقى الأثر الداخلى حين يكون حاله السوء والتردى والإخفاق، هو الحاسم فى السقوط، وهو الثغرة التى من خلالها تنفذ مشاريع استهداف الدولة، فحين تسقط الأوطان، فإنما يكون فى الأساس جراء الفشل الداخلى فى إدارة منظومة الحكم، ومن ثمَّ تمتطى المؤامرة الخارجية جسر الفشل ذاك الذى أقامه الفاسدون، كى تصل لأهدافها التدميرية عبر حلقات التداعى والانهيار الداخلى، كى لا نضع حملات الاستهداف الخارجية فى أكبر من حجمها، فى ذات الوقت الذى فيه لا نغفل خطورتها على الداخل، مادامت الدفة فى قبضة رشيدة.. وقد رأينا ما آلت إليه أحوال المنطقة العربية، فى أعقاب موجة الخريف العربى، وما كان حالها قبل اندلاع أحداث 2011م، حيث كانت عوامل السقوط كامنةً داخل تلك البلدان التى طالتها، وأتت المؤامرة واستثمرت هنات ضعف هنا وهناك، فنفذت من هذا الشرخ الكبير، الذى كان بين الشعوب والحكام، فتحتم السقوط وبدا فى ظاهره وشكله، أنه بفعل المؤامرة وحدها، بيد أن جوهر الأمر ولبابه ينطق قائلا: إنها حالة الضعف التى انتابت تلك الدول، هى من تسبب فى دخول المؤامرة على خط الأحداث، فكان ما كان.. وحين تكون سفينة الوطن تمخر عباب بحر الأخطار، وتتلاطمها أمواج الإرهاب المتتابعة، وتعصف بها رياح المؤامرات من كل جانب.. وحين يكون الوطن والمنطقة من حوله على صفيح ساخن دول تسقط وجيوش تتمزق، وشعوب تفر من أوطانها مذعورة.. ومصر فى بؤرة الأحداث، وقد تحسبت لها، ولو لم تكن على مستوى ما يدور للحقت بمن ضاعوا حولها.. وإذا بالأحداث تكون فى الداخل على وتيرة متصاعدة متلاحقة، تنذر بانهيار الدولة، بعد أن صار أمنها القومى مهددًا ، ولولا وعد من الله لها بالأمان، ولولا شعب عريق هو على مستوى التحدى، ولولا جيش متماسك، ما بقيت لمصر قائمة. فما كان من الشعب المصري، إلا أن انتفض وهب هبته القوية فى الثلاثين من يونيه 2013، فكان أن استعاد دولته فى ملحمة خالدة، فيها تجلت عظمة هذا الشعب الواعى المدرك بالفطرة المعنى الحقيقى للأمن القومى المصرى، وحرصه على هيبة دولته ووحدتها.. وبدأت مصر تخطو نحو تضميد الجراح، والسير قدما للأمام، وبأقصى سرعة، قبل أن تتداعى الأحداث التى كانت ساخنة على الأرض فى جولة تربص، فيحدث ما لا يُحمد عُقباه، حتى تم إنجاز الاستحقاق الأول بكتابة الدستور، وأتى الاستحقاق الثانى بانتخاب رئيس البلاد، ووقفت الرئاسة فى محطة صعبة للغاية.. أتبدأ بإصلاح الداخل وما تهدم منه وما تراكم من فعل للفساد ؟.. أم تبدأ بإصلاح ما توتر وتصدع فى الخارج؟ وهما خياران أحلاهما مرٌ.. فإن بدأت بالداخل وتركت الخارج، لنشطت الحملة الدولية علينا، تلك التى روجت زورًا وبهتانا، أن ما يدور فى مصر هو انقلاب على الشرعية والديمقراطية، وما لهذا من أثرٍ سيئ فى علاقتنا بالخارج، فبدت نذر أخطار دولية من تحالفات لدول لا تريد لمصر أن تقوم، وراح هؤلاء يعدون العدة لعزل مصر عن العالم ومحاصرتها.. من هنا كانت حكمة البداية من الخارج، فتحتم حدوث ما نراه الآن على الأرض، بل وكانت ثمرة هذا التوجه نحو الخارج، فى تلك الإنجازات القوية فى علاقتنا الخارجية مع الدول الهامة والمؤثرة على الصعيدين، السياسى والاقتصادى، ولسوف تكون نتائج الحركة المكوكية فى الخارج، مصالح اقتصادية للغد القريب، وقد جاء هذا التوجه على حساب التركيز فى الشأن الداخلى، وانتقص من رصيده، حيث كان صعبا، بل هو من قبيل المستحيل، السير فى الداخل والخارج معاً، فالبلاد تعانى آثار ليس أحداث وإن كانت، بل هى حرب من أشرث أنواع الحروب تلك التى ظفرت فيها مصر بحظ البقاء، ما لم تظفر بها الأقطار من حولنا لما سقطوا فى غياهب الفوضى والضياع، فلم يكن ممكن والجراح غائرة فى مصر، أن تجمع بين السبيلين فى آن واحد، الداخل والخارج.. ونحن الآن على أعتاب معركة الداخل وهى الأهم، وفيها الخصم العتيد يتربص سلامة البلاد ومصالحها العليا، إنه الفساد وزمرة الفاسدين، وعنوان معركتنا الداخلية تلك هو (القضاء على الفساد) وفى كلتا الحالتين، سواءً حالة المجابهة فى الخارج، أم المجابهة فى الداخل.. فى الحالتين ينشطر التعريف الأصيل لكلمة (الأمن القومى) فحين نخوض حملة خارجية لاستعادة دور مصر الريادى، فنحن إذ نفعل، فإنما يكون منطلقنا، من أن أمن مصر الداخلى هو رهين أمن الإقليم حولنا، ورهين وضعنا الدولى بين دول العالم.. وحين نخوض حربنا تلك التى بدأناها فى الداخل على الفساد، فهى الدلالة الأبرز والأوضح، على أن الاستقرار الداخلى ضمانة أصيلة لبقاء هيبة الدولة، وفى ذلك ما يقطع الطريق على المؤامرة والمتآمرين، من أن ينفذوا من تلك الثغرات، التى نفذوا فيها مع آخرين، فضاعت بلادهم.. ولن تقع مصر أبدًا وهى المعقود عليها الآمال فى استعادة تلك الأقطار الشقيقة، ممن عصفت بهم رياح الفوضى والدمار.