هذه أيام تاريخية,حبلي بالمفاجآت والكوارث, لا شك عندي في ذلك, فاليوم وبعد نحو ثلاثة أعوام منذ هبت عواصف الربيع العربي وأسقطت عروش حكومات عدد من الدول العربية التي أنغمست حتي الرمق الأخير في الفشل والفساد والتأخر الحضاري والإنساني, أصبح المصريون ومعهم غالبية أبناء الوطن العربي إمام خيارين أحلاهما مر, إما التغيير من الداخل عبر آليات الديمقراطية والانتخابات المؤلمة والمرهقة في آن, إما التغيير من الخارج, بخاصة وأن النجاح في معركة ما بعد الربيع العربي لن يكون في تقديري سوي بالاعتماد الكامل علي الذات والكفاءات الوطنية والإرادة الصارمة والاصرار علي عدم العودة الي الماضي بكل صوره وشخوصه( نموذج الدول الآسيوية وخاصة ماليزيا وإندونيسيا), والا فإن التغيير سيأتي من الخارج ويفرض فرضا: إما بالقصف بالطائرات والدبابات أو بالمؤامرات كما حدث في العراق والسودان ويحدث في سوريا واليمن وليبيا اليوم, بحيث يتم فرض العولمات: عولمة الفقر وعولمة الفوضي والتفسخ, ليتسع المجال عولمة الحكومة العالمية التلمودية المشبوهة القادمة من الغرب المتصهين, وذلك بعد تفجير الجغرافية العربية بشرا وحجرا, سواء بالثورات المختلقة, أو بالعنف المسلح, وذلك من أجل إبقاء شعوب المنطقة مجرد مجموعات سكانية استهلاكية, لا تنتج خبزها ولا سلاحها, ويظل الوطن العربي مجرد مختبر لكل تجارب وأنواع الفوضي القادمة من مراكز البحوث الغربية. واقع الحال أننا من فرط سذاجتنا, نتحرك وكأننا نعيش بمفردنا في الكون, أو نسير في الميادين بدون رقيب أو حسيب, فندور مثل حجر الرحي, ثم نبدأ من جديد, وفي كل مرة نكتشف أنه مفعول بنا, فنرفع سقف المطالب تلو المطالب لكي نغيرالحكومات. ثم ماذا بعد ذلك, نكتشف أننا نخسر كل شئ ونتوه في الفراغ! علي هذا النحو صار العرب كشعوب وجغرافيا أمام أزمة شاملة جيو استراتيجية ووطنية وسياسية, وقد تسببت هذه الأزمة في حدوث انهيار مجتمعي, وتفتت الخرائط, ولكن ليست رياح الربيع العربي وحدها هي المسئولة عما وصلت إليه الأمور, ولا يجوز أن نجعل منها دائما الشماعة التي نعلق عليها أخطاؤنا وتفشي القيم والمفاهيم السلبية. ومن دون شك فان هذا الخلل مزدوج قيادي وقاعدي, والقيادة هي المسئول المباشر عن ذلك, ولكن البني السياسية والمجتمعية الأخري, تتحمل مسئولية هي الأخري في هذا الجانب, فنحن علي سبيل المثال نشهد في ظل ضعف وتراجع دور السلطة والأحزاب والحركة الوطنية, شيوع قيم اجتماعية مقلوبة, أي حلول الأعراف التقليدية والدينية, محل القوي الوطنية والسلطة السياسية التي تدعم تلك الأشكال, وعملت علي تقوية دورها ووجودها في المجتمع, حتي أصبحت تلعب دورا بارزا ورئيسيا في معالجة القضايا والخلافات والمشاكل الاجتماعية, وفق رؤيتها وتصوراتها وبما يخدم أهدافها ومصالحها. وكما هو الحال في المشاكل العرقية والطائفية, فان الحلول التي تقترحها النخب التقليدية إما ترقيعية أو عرفية تتم خارج القانون, وبالتالي لا تعالج جذور المشكلة,بل تقوم علي الطبطبة ولملمة المشكلة, وغالبا ما يكون العلاج, حتي لو كانت المشكلة لها ذيول وتداعيات. لهذا كله نعتقد بأننا بحاجة إلي ثورة شاملة في المفاهيم والقيم,و إلي تغير جوهري في العلاقات الاجتماعية ونوعية العلاقات بين الحاكم والمحكومين والمؤسسات والأحزاب, وبالطبع فان هذه العملية صعبة ومعقدة وبحاجة إلي جرأة عالية وقيادات تمتلك القدرة علي التغيير, من خلال قرارات صحيحة وفعالة, وذات طابع جراحي أيضا. وليس من قبيل الرجم بالغيب القول بأننا قد نشهد خلال الفترة القادمة تغيير الحكومات وترحيل الحكام بسرعة البرق, لكي لا تطمئن أي حكومة علي مصيرها, وألا تحلم بضمان كراسيها, لأن أزمنة ما يسمي بالربيع العربي تتحكم في وتيرتها تسارع المؤامرة الغربية, وليس الاستجابة لمطالب المستحمرين العرب, مما يسهل تطويقهم والاستدارة علي مطالبهم, ما دام الغرب مصرا علي المضي قدما في تطبيق مناهجه لتفكيك المنطقة, وتفتيتها بكل الوسائل الممكنة, والتي لن يتراجع عنها أبدا, بموجب نظريته المعرفية الثابت والمتحول والثابت هو مبدأ السيادة, والمتحول هو تغيير الأقنعة والخطابات والأسماء .. لأن الوضع العالمي القريب رهيب وخطير جدا لم تشهد البشرية وضعا أخطر منه: 1 أولا خطير في حد ذاته, لأنه يحمل في طياته مفاجآت غير مسبوقة وتغييرات دولية مستجدة أهمها التغييرات الجغرافية بسبب الحروب القادمة والمعدة للجغرافيا العربية بغية التقسيم والبلقنة! 2 وخطير لكون العرب في خضم اهتماماتهم الصبيانية غير مهيئين لمواجهة رياح التغيير الغربية العاصفة نظرا لغفلة الشعوب عن المخاطر المحدقة بها غدا علي جميع الأصعدة. بموجب ما ذكرته أعلاه, وبسبب استغفال وعبثية التيارات الدينية والتقليدية وخوائها وزيفها وتخاذلها من ناحية, بينما النخب السياسية والفكرية من ناحية أخري لا خير فيها لأنها تابعة وعميلة, وفي أحسن الأحوال مستقيلة وغائبة ما لم تكن في غيبوبة تامة ومنشغلة بأجنداتها الخاصة, بالمزيد من النرجسية والغطرسة وعبودية السلطة, وهي نخب تصارع آفات الشعور بالعظمة الزائفة وتداري مركبات النقص, بالاستعلاء والانتفاخ الثقافي والتظاهر الأجوف, للتستر علي فراغ الروح, وتضخم الأنا, وهي ظاهرة تخص معظم الساسة والنخب والمثقفين والمبدعين بدرجات متفاوتة إلا من رحم ربي. ولعلني لا أبالغ في الختام ان قلت إنني أعتقد اعتقادا راسخا بأن النخب السياسية والمثقفة هي نخب رسالية مبدئيا..كما أن مسألة الأوطان نفسها مسألة وعي وقرار وإرادة...! مع ذلك فإن استشراء الفساد في بلدان العرب, دليل علي فساد النخبة, وغياب المشروع, الأمر الذي يؤكد أننا كعرب مازلنا نعاني من مشكلتين هما عدم وجود النخبة القادرة الصادقة, وعدم جود المشروع التنويري والإصلاحي الحقيقي ولو استنبتوا ألف ثورة وثورة. رابط دائم :